موجة الالتياع والكتابة
قبل أسبوعين في معرض الكتاب، كنتُ أتصفح بعض الكتب في إحدى الدور. وبجانبي فتاةٌ لا أعرفها تحدث البائع عن الرواية التي تقوم بكتابتها وتخبره بحماس أنها لم تصل بها بعد لدرجة الإتقان التي تطمح لها ثم أسرّت للبائع: “بيني وبينك، الرواية عن حياتي الخاصة وفيها أشياء حميمية، فأفكر أخلي الشخصيات بأسماء مستعارة. شرايك؟”. أنا الواقفة بجانبها –بيني وبين نفسي- صفقتُ لها وقلت: واو! سألتُ البائع في لحظة سكون منها عن جديد الدار فشاركتني أنها تريد الاطلاع على الجديد أيضًا. أخرج لنا بعض الروايات فبدأت بالتصفح وتناولت هي إحداها ثم طرحتها على الطاولة بعد تصفح قصير وقالت: “كلا. لا أريد روايات بهذا المستوى. أريد روايات لكتّاب خليجيين. مثل مثلاً (بنات الرياض) تعرف شلون؟ الأسلوب ابداعي ومشوّق وتحس في قصة حقيقة” ذُهل البائع وذُهلت معه.
هذه القصة ليست ضربًا من خيال إنها من الواقع يا سادة. الواقع الذي صار فيه تأليف الكتب كشرب الماء وبات “الكاتب الصرعة” يقف وراء كتبه كما في سوق الخضار ليوقع ويصور بعد توقيعه (سناب شات) ليقول كلمة لمتابعي من حظيّ بتوقيعه! وعندما تتصفح “الإصدارات الصرعة” أيضًا تجدها ضعيفة وخاوية جدًا وبلا هدف. أذّكر أن صديقة أهدتني رواية لأحد الكتاب “المشهورين” عبر شبكات التواصل الاجتماعي وقرأتها حتى أعرف سبب هذه الشهرة وقد كتب هذا “الكاتب الشهير” في وصف الفتاة التي أعجب بها بعد عشيقته النادلة “إنها مثال للفتاة للمسلمة” لا أذكر متى كانت آخر مرة قرأت فيها هذا التعبير قبل الألفية الجديدة!
المميز في الإصدارات أنها تتمحور في أغلبها حول قصص الحبّ الناجحة أو الفاشلة. ولا يمكن لقصة حب وحدها أن تكوّن إصدارًا جديرًا بالقراءة. الرواية والقصة أكثر من ذلك بكثير. موجة الإلتياع تجتاحنا يا رفاق! كل من حزن من قصة حب ألف كتابًا. حتى المراهقات ذوات الخمسة عشرة سنة. تلك التي ما زالت تلبس “مريولاً” للمدرسة تقول أن حبيبها هجرها! (متى أمداكم؟ طيب والامتحانات؟! والمذاكرة؟) الأغرب أن دور النشر تروّج لهذه الكتب وتفتخر: (هذا اصدار لكاتب صغير في العمر!) يا سيدي يا صاحب الدار أو المشرف على الكتب التي تطبع: هل تريد لإبنك أن يقرأ كتابًا كهذا؟ لأنني وأنا في الثلاثين من عمري لا يهمني فعلاً حب المراهقين! حتى العناوين مأساوية ومثيرة للشقفة. أتمنى لو كنتُ أستطيع أن أشارككم بعض العناوين في هذه المساحة الصغيرة ولكني لن أفعل وسأتمنّى أن تمر هذه الكلمات على كل من (على رأسه بطحه) عله (يحسس عليها). حتى أساليب الكتابة فاشلة. من يحاول أن يقلد أحدًا لن ينجح. من يكتب بأسلوب مواضيع الإنشاء في مراحل الدراسة لن ينجح. من يكتب ولا يقرأُ كُتبًا حقيقة في كل المجالات لن يفلح. ولو أفلح لن يكون ذلك إلا وهجًا وقتيًا سيخبو بعد حين.
في زمن النشر السريع تبدو الشهرة براقة وسهلة. كل من استطاع أن يكتب كلمتين أو يقول كلمتين قام إلى دار نشر ودفع لها لتطبع انتاجه دون أن تكترث الدار بجودةِ المطبوع فما سيدخل في الجيب هو الأهم. كأن هناك جائزة لمن يصبحُ كاتبًا ومشهورًا أولاً. وصار كثيرون يكتبون في خانة التعريف بأنفسهم في حساباتهم (مهندس وكاتب\ شاعر وطبيب \ محامي وكاتب\ اعلامي وروائي\ لا أقتبس هنا كتاباتي) كأنه من ضروريات الحياة أن تكون (كاتبًا!). والدعوة مفتوحة (جمّع كتاباتك وننشر لك)! لا أعترض كل المنشورات ولكنني هنا لا أحزن على شيء سوى على الذائقة الجمعية للمجتمع. أريد أن أتفاءل وأقول أنها إشارة إلى أن المجتمع يخطو نحو عوالم قرائية جديدة ونحو انتاج تراكمي قد يحسب لنا في المستقبل البعيد، ولكن تفاؤلي يخفت عندنا أتذكر كتابات العقّاد وطه حسين وغيرهم الذين تركوا لنا ارثًا كتابيًا مذهلاً تستطيع أن تعود له في كل زمان ومكان.
علينا أن نترفق بالحروف. أن لا نطفئ بريقها تحت أضواء الشهرة التي تعمي العيون. للحروف وقارها وللكتابة رسالة سامية علينا أن ندركها قبل أن نترك لأبنائنا عناوينًا بائسة وكتاباتٍ ضعيفة وكتبًا لا يستفيدُ منها عاقل.