الانتفاخ الذي لا أطيق..!

لم أكنْ يوماً ككل الأطفال. كما أني لم أكن مميزاً لتلك الدرجةِ التي تجعلني مُلفتًا. كنتُ طفلاً مرتباً جداً أكرهُ أي زوائد غير طبيعة. كانت معركتي الصباحية مع أمي هي طريقة تصفيف شعري. كنتُ أحبهُ أن يكونَ مستقيماً وكانت تفضلُ أن تكون غرتهُ جانبية، لم أكن أنانياً فقد كنتُ أسعدها بكلمة: حاضر. كانت تبتهجُ وكنتُ أبتسم ابتسامة الطفلِ البرئ وأنا أرتبهُ بالمشطِ المتساوي الأطرافِ تماماً على جبهتي العريضة. وفي كل مرة بعد أن أنتهي من تصفيف غرتي إلى الأمام أفتح حقيبتي وأتأكد من أن أمي لم تعث فساداً فيها لأني أحبُ ترتيب الكتبِ فيها بناءً على حجمهَا الأطول فالأقل طولاً فالأقصر. بعد أن أتأكد من ذلك تهدأُ نفسي، أسندُ رأسي على طرف الكرسي ويحلقُ خيالي بعيداً حتى نصل إلى المدرسة!

هل كنتُ أحبُ المدرسة؟ لا أدري! ولكني أعرفُ أني لم أكن أكرهها حتى أني لم أكن لأغيب إلا لظرفٍ طارئ بعد توسلاتِ أمي ووعدها لي بأي شيء يخطرُ في بالها. فقد كنتُ مسالماً جداً، ولذلك كانت أمي تستغلُ ذلك وتعدني بأشياء لا أفعلها أصلاً. ولكني كنتُ أقسمُ لها بأي شيء تريدهُ حتى أتغيّب عن المدرسة في اليوم الذي يكون فيه لدينا احتفال. ولأن دموعي كانت تفرُ مني بلا توقف وأنا طفلٌ لا أبكي كثيراً كانت أمي ترأفُ بحالي وتتركني وحيداً بعدَ أن تسمعني موالها الدائم: “إلى متى يا ابني تنعزلُ عن هذه المناسبات السعيدة. متى تكبرُ ويذهبُ عنك هذا الخوف السخيف! إنها مجردُ “نايلون” منفوخ لا أكثر!” تحوقلُ وأسمعها من بعيدٍ تناشدُ أبي أن يأخذني إلى طبيب. ويكررُ أبي على مسامعها موالهُ الشهير أيضاً: يكبر ويعَقل!

أمي اجتماعيةٌ بطبعها وتعشقُ المناسبات، لذلك كانت تصر على أن نذهب لكل الحفلات التي نُدعى لهَا. كانت سيرةُ الحفلاتِ تربكني، ويوم أي حفلةٍ موعدٌ مع معركة لا تتحملها معدتي الصغيرة ولا رأسي الصغير. كنتُ أعاني وأستفرغُ كثيراً وأتلوّى على سريري من الصداع إلا أن أمي لم تتحمل هذا الوضعَ كثيراً. فصارت تجبرني على الذهاب معها ومع اخوتي لأي حفلٍ تقيمهُ صديقاتها لأبنائهن. وكم كنتُ أكرههن وأكرهُ أبنائهن!

في أي مناسبة كُنت أنسحبُ رويداً رويداً وأنا أضعُ يديّ على أذنيّ وأتسلل بعيداً كمحاربٍ مخذول إلى مكان فسيح حتى أهدأ. ثم أنخرط في بكاءٍ حادٍ لأني أخافُ شيئاً “سخيفاً” كما تقولُ أمي. ولكن هذا الشيء يحيلُ حياتي إلى مأساةٍ كثيراً. وبعضُ المآسي لا يمكنُ نسيانهَا حتى وإن تم التغاضي عنها برهةً من الزمن. إنها تقبعُ هناك في آخر رفٍ للذكريات يطالهَا الغبارُ إلا أن أي نفضٍ له يعيدها سيرتها الأولى!

كَبرتُ وأنا أكرهُ الاحتفالات. والجيدُ أننا حينَ نكبرُ لا يكونُ في حفلاتنا كرجالٍ أي بالونات! والجيّدُ أنني لا أذهبُ لأي مكانٍ تتواجدُ فيه أيُّ بالونات. عشتُ زمناً سعيداً برجولتي التي لا يهزها شيء سخيف. وتزوجتُ وكان أول ما قلتهُ لزوجتي أمل: سأكونُ لكِ كل شيء ولكِ ما تريدينَ. واعذريني في الغياب ولا تخافي منهُ لأنني منكِ فسأعودُ دوماً ودوماً. قلتُ لأمل: أكرهُ البالونات، أكرهُها وأكرهُ أي شيءٍ منتفخ. حتى بطنَ  أمي الحُبلى بأخوتي كنتُ أكرهه. قالت: ولكنَ بطني سيحملُ طفلنَا! أجبتُ: نعم. ولكني لا أريدُ أن أراكِ منتفخةَ البطن. انصدمت أمل لهذه الجرأة مني. ولكني لم أكن لأغشها في أكثر وقتٍ ستحتاجني فيه. حينَ حبلت أمل للمرة أولى وبدأَ بطنها يستديرُ أمامها راودني الصداعُ ذاته وكنتُ أسيراً للأدويةِ التي لم تكن لتفلحَ مع ألم البطن! كنتُ أتحاشى النظرَ إليها وأحاولُ أن أكون سويّاً. إلا أنني لم أفلح. شهرٌ مرّ وأمل تبتعدُ عني وأنا لا أحاولُ الاقتراب. الاقترابُ مع الخوفِ جريمةٌ لا تغتفر. الاقترابُ مع الخوفِ يحيلُ الحياةَ إلى احتمالات أقربها البعد. رأيتُ أمل ترتبُ حقيبةً، عرفتُ حينها أن الأمل قد غادرَ قلبها! فقررت انقاذي مما أنا فيه مشفقةً على وزني الذي يذهبُ مع كل استفراغ. مع كلِ وجبةٍ أمتنعُ عنها. مع كلِ قربٍ تشاؤهِ هي ولا أقدرُ عليه أنا!

قلتُ لها قبلَ أن تُغادر تلك الليلة: سنكونُ عاشقين. حتى موعد الولادة ثم لن اغادرك ولا طفلنا!. ابتسمت وسألتني: للمرة الأخيرة. أريدُ أن أعرفَ لماذا حتى أعود!

أطرقتُ بخجلِ طفلٍ يعرفُ أخطاءه وهو يرتكبها: كانت تلك الحفلة أسوء الحفلات. أجبرتني أمي على المكوثِ بجانبها تلك الليلة. أصرت أم أحمد أن تحتفلَ بيّ أيضاً، وضعانا في دائرة وبدأوا المشي حولنا وهم يحملون بالوناتٍ كثيرة كانت تحتك ببعضها البعض وتصدرُ أصواتاً تخترقُ أذني وضعتُ يدي على أذني في محاولةٍ لتلافي هذا الأصوات إلا أنها أصبحت أعنف بدأتُ في البكاء ولم ينتبه لي أحد، ثم فجأة سمعتُ انفجاراتٍ كثيرة وأشياء بدأت تتساقطُ على جسدي. بدأتُ أصرخُ كالمجنون، والأطفالُ يضحكون والنسوة يتسائلون! كنتُ وحيداً خائفاً معزولاً في سوادٍ عظيم وصريرُ الأشياء حولي مؤلم ولا أحد يستجيبُ لنداءاتي المتكررة. صحوتُ في اليوم التالي في مكانٍ أبيض وأبي يرددُ على مسامعِ أمي: سيكبرُ ويعقل. وأمي صامتةٌ سمّرت عينيها عليّ حتى وأنا أفيق! حاولت أمي مراراً بعدها أن تعيدني إلى الطبيعة ولكنها لم تستطع، صارت تجبرني على الذهاب وكنت أستجيب ولكنها لم تعد تبحثُ عني! الفقدُ أن تفقد شيئاً من روحك لا تستطيعُ استعادته. ولا تستطيعُ أن تردمَ مكانه. الفقدُ تلك هو العلامةُ الفارقةُ بين الأفراد وبين القلوب.

بعضُ الخوفِ يأبى أن يغادرنا. إنهُ يكبرُ معنا، لا نستطيعُ الاصطدامَ بهِ ولا نستطيعُ العبورَ فوقهَ. ابتسمت لي أمل أربع مراتٍ بعدها على باب المنزل وفي كل مرة كانت تتركُ لي شيئاً منها وبعضَ اليأس. لم تنسَ أمل ما أخاف ولكنها اعتادت عليه لأني وعدتها أن أكون لها ما تريد. لأنها حسبتني طفلاً من أطفالها لأنها أحبتني بكلِ خيباتي الصغيرة وأحببتها بكلُ ما فيها حتى ابتسامتها اليائسة وهي تغادرُ إلى بيت أمها مع كلِ حمل، مع كلِ مرة يطالبُ فيها الأطفالُ ببالوناتٍ وتقول لهم هي: إن البالونات سيئة، تأخذُ الأكسجين من الأرض!

Similar Posts

2 Comments

  1. الفقدُ أن تفقد شيئاً من روحك لا تستطيعُ استعادته. ولا تستطيعُ أن تردمَ مكانه. الفقدُ تلك هو العلامةُ الفارقةُ بين الأفراد وبين القلوب.

    بعضُ الخوفِ يأبى أن يغادرنا. إنهُ يكبرُ معنا، لا نستطيعُ الاصطدامَ بهِ ولا نستطيعُ العبورَ فوقهَ.

    لا أقول إلا ربِ أعطنا خيراً مما فقدناه يارب ، وتنحدرُ _ بلا أثرٍ _ دمعتان .

  2. ربما كانت أمل وابتسامتها اليائسة الأخيرة تكفي حتى تُخلّف في نفسي هذا الشعور بالألم .. أن تبتعد هكذا من أجل أحدهم .. وليس أي أحد أيضاً .. وفي هذهِ الحالة .. يا الله!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *