أنت مثالي ومنهك

Perfection

تصحو صباحًا، الأجواء الصباحية تناسبك وتحرضك على احتساء القهوة وأنت تتصفحُ عن طريق (آيبادك) الصحف المختلفة. تصور فنجانك الذي اقتنيته من آخر سفرة لك وترسلها عبر (انستقرام) وتكتب لمتابعيك جملة صباحية مميزة تحثهم على النشاط والعمل. تدخل (تويتر) وتعلق على إحدى الأخبار التي شدّتك من بين ما تصفحته من أخبار. تستعدُ للذهاب للعمل، ترتدي ملابسك بسرور تدخل سيارتك وتصور في (سناب شات) فيديو تخبر فيه متابعيك أنك متجه للعمل مع ابتسامة متفائلة. يتكررُ تواجدك في شبكات التواصل الاجتماعي وقت العمل وأثناء الغداء ومع أولادك وحتى تضع رأسك على وسادتك في المساء. أنت الآن في صورتك التي رسمتها: رجل بيت ورجل أعمال ورب أسرة ومثقف ومتحدث بإمكانك مواكبة كل شيء بقدرٍ متساوٍ من الاهتمام والدقة. تبدو هذه الحياة للآخرين مثالية ورائعة ويتمنى الآخرون عيش يومٍ واحد من حياتك. هل فكرت قليلاً: هل أنا مثالي، هل حقًا حياتي مثالية؟

الأغلبُ يحاول جاهدًا اثبات مثاليته ويمكن تتبع ذلك من خلال الكم الهائل مما نستقبله يوميًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وما إن تقابل أحدهم حتى تكتشف أن حياته ليست كما كانت تبدو لك. قد تشعرُ بخيبة ولكن الحقيقة تكمن هنا: الكمال صفةٌ ربانية. في عالم اليوم بات (التجمّل) أمام الآخرين هدفًا نسعى إليه مهما كلفنا ماديًا ومعنويًا.

وقد تصل المثالية المُدعاة لحد المرض الذي لا يلاحظه من يعاني منه فترى الشخص (المثالي) لا يقبل الانتقادات مثلاً ويفترض أنها انتقادات لشخصه لا لسلوكياته. تحاول ارضاءهُ بشتى الطرق وتفشل لأنه لا يستجيب إلا لما يراه مناسبًا. وقد يصبح عدائيًا اتجاه آراء الآخرين التي لا تتوافق مع أهواءه. وهناك الكثير من العلامات الأخرى التي يتحدث عنها أخصائيو الطب النفسي عن أعراض المثالية. توقف الآن وفكر مليًّا: هل من الممكن أن تكون مصابًا بهوس المثالية؟ في الحقيقة لن تعرف ما دمتُ تنفي كل شيء عنك. بل أكثر من ذلك أنك لا تتجرأ على نقد نفسك وتغيير آرائك حولها وحول الآخرين وحول الحياة ذاتها. تعتقد أنك الأفضل وأنك لا تخسر. الحقيقة أنك تخسر، تخسرُ نفسك لأنك تعكر صفو روحك بتحميلها ما لا تطيق.

تسلبنا المثالية المُدعاة كثيرًا من التقرّب من ذواتنا. فنتكبر على البسيط الذي قد يسعدنا للمعقد الذي قد يشقينا. ونحرم أنفسنا من جمال أفعالنا العفوية التي بإمكانها أن تجعل منا أشخاصًا أفضل وندخل في صراعات تجعلنا أشخاصًا أسوأ دون أن ندري. نكبتُ مشاعرنا الحقيقة حنى نفقد التوازن تمامًا ونلوذ آخر الليل بالدموع علها تواسينا.

تسلبنا المثالية المُدعاة من الآخرين الذي نعيش معهم لأننا ولو لم ننتقد من حولنا بصوتٍ عالٍ فإننا نفعل ذلك في داخلنا. نلوذ بالصمت أو التجهم مما يعطي الآخرين انطباعًا بأننا لا نهتم أو أن الكِبر تمكنَ منا. نصدُ من لا يتوافق معنا في الآراء ونقرب الناس منا بحسب أهوائنا الوقتية حتى ينتهي بنا المطاف وحيدين دون رفقةٍ حقيقة أو أحباءَ يشاركوننا زهو الحياة.

تسلبنا المثالية من الحياة التي تفتح أبوابها لنا ببساطتها وتنافسيتها. لا نقبل التدرج بل نريد الطيران نحو القمة ولو كانت أجنحتنا ناقصة النمو. تسلبنا التمتعُ باللحظة التي ينبغي لنا أن نختزلها في عقلنا لتبقى ذاكرتنا مليئة باللحظات المبهرة. تسلبنا متعة الاكتشاف وروعة التعرف على إمكانات الحياة التي لا يمكن أبدًا أن تتكشف لنا ما دمنا نأخذ الحياة على عُجالة.

كُلنا نسعى إلى الكمال. وكلنا نريدُ أن نكون أفضل مما نحنُ عليه. وهذه مشاعرٌ طبيعية لأننا كبشر مجبولون على السعي إلى الجديد. وفي سعينا هذا هناك الأمل وهناك الخيبة وهناك النجاح وهناك الفشل وهناك كل المشاعر التي تنطوي عليها التجارب الإنسانية. ولكن لا تذهب إلى أبعد من ذلك. لا تدعي الكمال وتعمل وفقًا لذلك لأنك لن تلبث حتى تجد نفسك مُدمرًا من الداخل ومن الخارج. المهمُ في إنسانيتنا هو أن نعيش حياتنا ولحظاتنا بشكل حقيقي، بحضور حقيقي لمشاعرنا وذواتنا. ولنتذكر دومًا: أن الأشياء الجميلة ليست دومًا مثالية، ما يجعلها كذلك مشاعرنا فيها.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *