نعم، أنا أحب..!

منذ فترة كنتُ أقرأ عن الرواية النسوية الخليجية في كتاب نقدي للكاتبة رفيعة الطالعي* استعرضت فيه الكاتبة عدة روايات نسوية خليجية في الفترة ما بين عام 1899 وحتى 1999 وفي رأيي أنها وفقت في اختيار هذه الفترة فالروايات المختارة تعبرُ عن مرحلة لها خصوصيتها من ناحية التحولات الاجتماعية في كل دول الخليج. وبالطبع فإن هذه الروايات تدور حول مواضيع متشابهةٍ وإن اختلفت الزاوية التي تحاول كل كاتبةٍ النظر منها. الجميلُ في الكتاب أني تعرّفتُ على روايات لم أكن لأسمع عنها في سياق آخر لولاه. والأمرُ الذي شغلني وهو والمهم موضوعُ “الحب” في الروايةِ الخليجية والذي ما زال يعتبرُ من”المُحرمات” الاجتماعية فضلاً عن “الكتابية”.

في هذه الروايات تحاولُ أغلبُ الروائيات الظهور بمظهر المتحررة تارة والخاضعةِ لهيمنةِ القبيلة والأعرافِ والمُجتمع المنغلقِ تارة أخرى. وبين هذه الصراعاتِ تتجلى النزعاتُ الروحية للحب الخالص، الذي يُبنى على التفاهم والتواصل الروحي العميق وبالطبعِ محاولاً التنصل من الرغبات الجسدية التي قد يفهمها القارئ بشكل “خاطئ” ويفسرها المجتمعُ أنها “رغبات” شخصية بحتةُ لكاتبتها!

ثم جاءت ثورةُ الإنترنت وانفجرت الكِتابة النسوية الخليجية في قوالب أخرى متعددة يدور أغلبها حول ذات “الصراع القيمي”، فكان الصدى الأكبرُ للروايات التي تتجاوز الخطوط الحمراء بمقياس “التسعينات”! وليس هذا منطبقاً على الرواياتِ النسوية فقط بل أن أغلب الإنتاج الأدبي في الألفية الجديدة يعزز قيمة الجسد باعتبارهِ أساساً حياتياً لا يمكنُ غض البصر عنه أو تركهُ دون الحديث “الأدبي” أو “غير الأدبي” سموهُ ما شئتم. ولستُ هنا أؤيدُ الكتابة “المُنحلة” التي تحطُ من قدرِ الحبِ والجسد، بل إني من المؤمنين أن “التوظيف والسياق والسرد” متى ما تم استخدامهم بشكلٍ بليغ فإن النص يستطيعُ أن يصل بالقارئ إلى نشوةِ الحبِ دون إسفاف وابتذال.

المهمُ أنه على ضوءِ النقلةِ الأدبية و”الروائية” التي اتسمت بها الألفية في الروايات النسوية على وجهِ التحديد، برز على السطحِ من جديد تخصص المجتمع المفضل “الفضول القاتل”، هل تكتبُ هذه الكاتبة لأنها على علاقةٍ غرامية؟ هل هي مخطوبة أم متزوجة؟ هل هذه القصة حدثت لها أم هي من وحي الخيال؟ ولا أجد مفراً من الرد على أمثال هؤلاء بقول: “أنت وش دخلك؟!” ماذا لو أجابت إحدى الكَاتبات: نعم أنا أحب!

إن المرأة أصلٌ وفرع وهي ذاتهَا الماءُ والارتواء، فلماذا عليها أن تخضع دوماً لسيلٍ من الأسئلة التي تتدخل لتسيطر على تفاصيل حياتها الخاصة بقدرٍ لا يعادل ما يُكال للرجل إذا فعل ذات الشيء؟!

تقولُ لي أمي ممازحة أحياناً وغاضبةً أحياناً أخر حين تقرأُ لي نصاً أدبياً: “وبعدين مع كلام الحب؟” فأردُ عليهَا: الشعب يريد كلام في الحب! وليتَ للفضوليين ومتتبعي “شخصِ ما وراء السطور” قلباً كقلبِ أمي، يحاول أن يسدد ويقارب ولا يسدُ الأبوابَ ويباعد!

وأنا هنا لا تُهمني هذه النظرةُ بقدر ما يهمني الفعل في حد ذاته، ما يُهمني أن تتركَ للمرأة المساحة من الحرية حتى تُعبر عن ما يجول في خُلدها حيث أن ذلك شكل صحيٌ من أشكال التواصل مع العالم من حولها، وانسيابٌ طبيعي للأحاسيس التي تفيضُ بها مشاعرها. إن الكتابة تسمحُ بالتمددِ العاطفي. والسردُ يحتاجُ إلى الغواية حتى تتم سطوره.

إن القارئ الأصيل تجذبهُ الكلمةُ الرقراقةُ العذبة التي تطرقُ أبواب القلبِ برقةٍ فيفتحُ الشوقُ لها أذرعه. والكلمةُ الجميلةُ غير مرتبطة بجنسِ من كاتبها. وليس أجملُ ممن يستطيعُ أن يعبر عن خلجاتِ ذاتهِ فيصلَ شعورهُ إلى كل ما يقرأُ كلماته. نحنُ نتبعُ جهتين في القراءة، اتجاه القلبِ واتجاه العقل. فما الداعي أن نشغلَ أنفسنا بما وراء القلبِ دون إعمال العقلِ في التَمتعِ والنقدِ النافعِ إن وجد؟!

إني أدركُ تماماً أن هذا الموضوعَ شائك وفيه الكثيرُ من الكلام، ولكني دائماً وأبداً أعوّل على “القارئ الواعي” الذي يهمهُ الارتقاء بمعنى الأدب والفكر. ويساهمُ في خلقِ وعيّ اجتماعي يعمُ المجتمع ولو بعدَ حين.

 ____________________________

*الحب والجسدُ والحرية في النص الروائي النسوي في الخليج، رفيعة الطالعي، الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2

Similar Posts

6 Comments

  1. بالضبط!!
    أذكر أن كانت لي صديقة في يوم من الأيام جعلتني أتردد وأفكر ألف مرة قبل كتابة كلمة بسبب تحقيقاتها المستمرة عن الحرف لمن كُتب! إنه فعلاً شعور سخيف قد يجعل الكاتب أو الشاعر يختنق بأحرفه. أحب ما تكتبين دوماً شيومة.

  2. عندما صعد( ماريو فارغاس يوسا ) من ألبيرو الفائز بجائزة نوبل للآداب عن عام 2010 ميلادي قال “ياله من امتياز عظيم أن لا تكون لبلاد هوية لان لديها كل الهويات ” . وعندما وضعت (كوندوليزا رايس) وزيرة خارجية أميركا السابقة كتابها ” ليس من تشريف أعلى ” تحدثت بكل صراحة عن العقيد الراحل (معمر القذافي )عندما أساء استقبالها ورفض مصافحتها وقدم لها أغنية قمة في العنصرية كهدية تحت عنوان ( وردة سوداء في البيت الأبيض ) . ياله من امتياز (ياشيماء) على طريقة ( ماريو فارغاس يوسا) وصراحة( كوندليزا )وحديث الصينية ( إيمي شوا) عن الشوفينية المتشددة .
    رغم أزمة العنوان الجريئة ونوازع النص الأدبي وخطوط المجتمع الحمراء لكن المقال بالنسبة لي كان يتحدث عن فكرة حرية الرأي والتعبير ويفتح المجال
    لكل الآراء والمضي دون أن تقام المحاكم وننصب المشانق وندخل في نوايا الأشخاص
    موسيقاه العابرة درس لا ينسى

  3. أعترف بأني في المواقع الاجتماعية أسجل بحسابان..

    حساب شخصي و يعلم به الأهل و الأصدقاء،،

    أما الآخر فأنا أعرفه و أناس يقعون عليه بمحض صدفة..

    فالحساب الأول حساب عقل،، و الآخر حساب قلب..

    لا يحق لي التحدث عن ما يسمونه الحب ،، فهو محرّم في مجتمعنا..

    و كيف ان كل كلمة تكون خارجة من اعماق القلب تفسّر و تحلل بطريقة أخرى..!

  4. بالصدفة وقعت عيني على هذا المقال الرائع,, في موقع التغريدات ,, مقال جميل ورائد في مجاله ,, لغة راقية ورائعة ,, سرد سلس مرتب للأفكار ,, ولكن السؤال هنا ماهو الحب ؟؟!! وهل الحب يختلف من بلد وبلد ومنبيئة إلى بيئة أخرى ؟؟ أم أن الحب هو واحد ولكن ممارسته أوما يسمى (بالرومانسية) تختلف من مكان أو شخص أو بيئة أخرى ؟؟

  5. عجيبة أنت في أطروحاتك .. تنتقلين برشاقة من فنن إلى فنن .. تقربين المعاني للقارىء بأسلوب سهل ممتع .. تثيرين مرة مواضيع إجتماعية ..ومرة أدبية و..مرة نقدية .. وتدلين فيها بدلوك الآخاذ الذي ليس فيه ابتذال أو اسفاف وهذا ما يجعلني أنتظر كتاباتك .. واسعد بتفاعل القراء معك .. فهم يأسرهم أسلوبك وطرحك كما يأسرني أرجو ألا أكون مخطئة في هذا الجانب .. فقط تسعدني مقالاتك .. وإلى مزيد من الإبداع والتألق .. حماك ربي وزادك فهماً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *