مَحَطَاتْ

تجلسُ هناك بصمت وتضع سماعاتٍ، تدندنُ وتهز رأسها بطرب واندماج، لا أحد يزجرُهَا أن تصمت، لا أحد يكترثُ للوشمِ على فخذها! حتى وجهُ الرجل المتعب هذا، لفحتهُ الشمسُ طويلاً حتى تبقّعت بشرته السمراء، يرتدي “البنجابي” وحذاء رياضة أبيض وفي يدهِ شنطةٌ صغيرة، هل تراهُ أتى يبحثُ عن حياةٍ أخرى بعيدةٍ عن لظى الحرب والدمار هنا؟

قصص كثيرةٌ تمرُ عليك وأنت جالس على هذا الكرسي، الذي جلس عليه الملايين قبلك. لكل منهم حكاية لكل منهم أمل، لكل منهم حياةٌ سرية لا يعرفُ عنها أحد شيئاً. رحلةٌ قد تستغرقُ دقائق لا أكثر تستطيعُ خلالها أن ترى حياةَ مئات الناس، في مشهد صامت يدعوك للتأمل وفسح المجال لخيالك ليبحر بك في حكاياهم. في كل حكايات الناس جزء من حكاياتنا الخاصة. وفي كل حكاية عِبرة علينَا الاعْتبارُ منها.

في تأمل القطارات، تجلسُ غالباً على كرسيٍّ غير مريح أو تقفُ ثابتاً في مكانك تنظرُ إلى ساعتكَ باهتمام بالغ حتى لا تتأخر عن مواعيدك، أو تظلُ تمشي ذهاباً وإياباً علّ الحركة تخفف هول الانتظار. هذه التصرفاتُ تشبهُ حياتنا. هناكَ أناسٌ ينتظرون المجهول أن يأتي إليهم فيركنون إلى الجلوس والانتظار، ومن ينتظرُ مجهولاً ليغير حياته تضيعُ حياتهُ وهو لم يقدم حسناً وتتضاءل فرصهُ في الإنجاز. لأن الجلوس على مقعد غير وثير يولدُ هشاشةً في الجسم والعقل. ومن يظلُ واقفاً في مكانه بدون عمل، لا يأتي العمل إليه مِطواعاً، فالجّد لا يأتي بدون عزيمة، ولا النجاحُ ينحازُ لأحد. أما المنتظرُ الشاغلُ وقتهُ بكل مفيد فإنه يلقى جزاء عمله محضراً بين يديهِ وإن طال به الزمن، لأن الله لا يضيعُ أجر العاملين.

عند ركوب القطار تأكد أنكَ تعرفُ وجهتك تماماً، وفي أي المحطات عليك النزول، نسيانك لمحطتك قد يكلفك ضياع فرصٍ ذهبية لأنها تضيعُ عليك وقتاً وجهداً. خطؤك في تحديد محطتك يعني خللاً في معطياتك. تحديدُ الهدفِ طريق مختصر للنجاح. إذا أخطأت يوماً في محطة النزول لا تقلق، فربما هناك فرصة تدقُ الباب. انتبه للإشارات الكونية حولك والتي تجتمعُ لتهديك إلى سبيل جديد. في قلبِ الأزمات توجد الحلول البسيطة التي لا ننتبهُ لها غالباً. ليست كل الأخطاء جسيمة بعضُ الأخطاء تمنحنا فرصة التقّرب من ذواتنا واكتشافِ دواخلنا. الحياةُ خيارات، تستطيعُ أن تعود من حيثُ بدأت أو تبحث عن طريقٍ آخر الأهم أن لا تقف مكانك. كل خيارٍ في الحياة يكلفكَ زمناً من حياتك وكل دقيقة كفيلة بجعلها أفضل مما هي عليه الآن.

أذكر مرة أن فتاةً كانت تجلسُ قبالتي في القطار، وكانت عيناها تنظران في الفراغ وتذرفان دمعاً غزيراً وفجأة انفجرت باكية ومتشنجة أمامي، فما كان من الجالسين بجانبها إلا محاولة تهدئتها وسؤالها عمّا بها فانفجرت بسيرة حياتها المأساوية والكل ينظرُ إليها في ذهول، وفي خضم حديثها قالت: كل انتظار يجعلني أموت ألف مرة لأني أتذكر كل شيء ألف مرة!

الانتظارُ سنّة في الكون. الفارق الوحيد بينَ انتظار أيٍّ منا هو استغلال وقت الانتظار. أحدنا قد يقضيهِ في فراغ تام لاهياً في جهازه المحمول، مشغولاً بألعابه ومحادثاته. وآخر قد يقضيه في عمل نافعٍ كأن يقرأ كتاباً. وآخر يُنمّي السلبية في داخله بتذكر كل شيء سيءٍ مرّ عليه في حياته. وذلك أسوأ أنواع الانتظار. الانتظارُ في مجملهِ عملٌ ممل، إلا انتظارُ من نحبُ فهو انتظارٌ تفتحُ فيه أبوابُ الجنان، وتتوقفُ فيهِ الأرض عن الدوران، حتى تُسطرَ حكاية اللقاء.

في القطار لا يهمُ مطلقاً من أنت، ولا ماذا تفعل في حياتك. أنت تركبُ في مكان واحد مع مئات من البشر من مختلف الطبقات فتبدون كلكم سواسية لا تتفاضلون. من الممكن أن يجلس من يمتلكُ (لابتوباً) وهنداماً أنيقاً بجانب عجوزٍ تحملُ بيتها في يدهَا ترتدي ملابسة رثّة وحذاءاً ممزقاً من جميع الجهات. لا يهم إلى أي الأحزاب تنتمي لطالما أنك تلتزمُ بالنظام العام وتمارس حقوقك كمواطن صالح. لا يهم إن كان حذاؤك من (LV) أو من متجر للأغراض المستخدمة لأن من سيدوس على قدمك لن ينتبه له! القطار أفضل مكانٍ لتعرف قيمةَ التواضع.

إذا فاتك قطارٌ على سكة حديدية لا تقلق سيأتي قطارٌ غيره..ولكن إن فاتكَ قطارٌ في الحياة لا تنتظر أن يأتي آخر بل ابحث عن بديل أفضل. أما القطاراتُ في الحب، فهي أجملُ ما يمكنُ أن يحصل لك. لأنك تتوقفُ مع من تحبُ في محطاتٍ عديدة، لكل منها طعمٌ ورائحةٌ مميزة. فتطيبٌ فيها كل الجروح. ويصبحُ للمساتِ الحب بُعدٌ جديد. وكلُ نظرةٍ في كل رحلةٍ تؤسس لذكرياتٍ مُخملية.

كَتبتُ يوماً:

“انتظار القطارات، يذكرني تماماً بانتظارك، لا يجيءُ إلا خاطفاً ويرحلُ مُحملاً مني بكلِ شيء، ويُبقيني خالية الوفاض إلا من ذكراك..وكل ذكرى منك حياة”

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *