ممكن نتعرف؟!

من جميل الأيامِ أننا بمرورهَا نكبر ونتعلم. تماماً قال الأوّلون تماماً: “أكبر منك بيوم، أعلم منك بسنة”. وكل دقيقة من حياتنا تضافُ إلى أعمارنا لتزيدنا فهماً وإدراكاً. هذا هو المفروض أو ما يجبُ أن يكون إلا أن لكل قاعدةٍ استثناء.

هل رأيتم كائنات حية تلفُ حول المجمعات التجارية في سيارات تتفاوت في فخامتها وتتفاوت حتماً في جمال الكائنات التي بداخلها؟ وهي كائنات بشرية إلا أن لديها قدرة مهولة على تحمل الأصوات العالية التي تصم آذان الكائنات الطبيعية! هذه الكائنات ناطقةٌ أيضاً: حينَ تمرُ بجانبها أي امرأة تباغتها بجملة سريعةٍ وخاطفة: ممكن نتعرف؟ (احلف بس!)

هل رأيتم شاباً لطيفاً يجلسُ وأمامهُ ثلاث “جوالات ذكية”، واضعاً رجلاً على الأخرى مُبيناً جمال “سرواله” لا يتحركُ من جسدهِ شيءٌ إلا عيناهُ في عملية خاطفة لتفحصِ الماراتِ أمامه وقبل أن تتعداهُ يمسكُ إحدى “جوالاته” كأنه يكلم صديقاً ليخبره عن رقم جواله؟ (سلامات!)

وأكيدةٌ أيضاً أنكم رأيتم فتاةً جميلة تضعُ كل ما لديها من “مكياج” وكل العطورات الفرنسية والعربية وتمشي مشيةً مريبة لأنها تلبسُ كعباً يتجاوزُ طولهُ الشبر يتبعها شابٌ ويغازلُ جمال عينيها الناعستين فتردُ عليه: “عمى بعينك ما شايف خير!” (الخير بوجهك يا عيون أمك!)

ولا أحتاج أن أسألكم إن كنتم رأيتم التكنولوجيين الذي يستغلون التقنية أحسن استغلال، فتجدهم على مواقع التواصل الاجتماعية “شغالين جامد”، وصار “الترقيم” بـ (البن كود)!

لستُ أبداً من “الدقة القديمة”، ولكن أحب أن يتم كل شيء بأناقة. فالأناقةُ من أصول الحضارة. من يريدُ أن يتعرف على شخص عليهِ أن يجدَ فيه أولاً لمحةً من نفسه، ثم يختارُ الطريقة والوسيلة الأنسب. قالت لي بائعةٌ في مصر مرة بالعربية الفصحى: “كل أنيقٍ يرتدي ما يليقُ به”، لطفها كان بالغاً ولجملتها وقع لو تم فهمهُ بكل أبعاده واسقاطه على النواحي المختلفةِ للحياة لكنا بخير وكان عالمنُا خالياً من أمثال هؤلاء.

هنا أتحدثُ عن الشباب سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، لأن لكل منهما هدفٌ –خفي عليّ- من هذه التصرفات. ولستُ هنا أتحدثُ عن الجانب الديني، ولا الجانب الأخلاقي، إنما عن الجانب الإنساني، جانب الخصوصية والحرية في التنقل والحركة دونَ أن تحسَ أنك مراقب من قبل الآخرين. كثيراً ما نسمعُ عن “خصوصية المجتمعات العربية” و “خصوصية المجتمع الخليجي” ولقد حاولت كثيراً التعرف عن المعنى الدقيق لهذا المصطلح إلا أنني لم أقترب بعد مما يريدهُ منتجوه، وأعتقد إعتقاداً أظنه أقرب للصواب أنهُ مصطلحٌ “تستُرّي” نحاول به دسّ خيباتنا الاجتماعية وعثراتنا الحضارية!

إن مشكلة “ممكن نتعرف؟” ليست مشكلة سطحية أبداً. بل هي مشكلة عميقة تجسدُ ما يعانيهِ الشباب من نظرةِ كل منهما للآخر. فنحن كمجتعات خليجية كان الأصل عندنا الانتفاحُ الطبيعي ثم جاءت “طفرةُ البترول” التي قلبت الموازين وفرّقت بين المجتمعات الصغيرة التي كانت تعدُ كل فرد منها مهما بعد أصلهُ ونسبهُ وجيرتهً “من الأهل” وتحولنا إلى كائناتٍ ترتاب وتسمي كل أحد عدا أفراد الأسرة المقربين “غريباً” وهكذا زادت الفجوة فأصبحت الحياةُ السرية أصلاً بين المتحابين. وبسبب الثورةِ النفطية أيضاً وفي محاولاتنا لدخول أبواب الحضارة عادت الحياةُ بفخامتها إلى أنماط الاختلاط بفجائية جعلت الشباب يصارع نفسه في تحديهِ مع القيم الموروثة والقيم المدروسة!

تقول لي صديقتي أن لها أخاً يقتربُ عمره الآن من أواخر الثلاثين من الملازمين طوال حياته للمجمعات التجارية، ولم يتزوج بعد رغم رغبته في ذلك. والسبب يعود لكونه كلما تقدمَ لخطبة فتاة أو رأى صورةَ احداهن يتردد ويقول لأخواته: ابحثوا مرة أخرى، ربما تجدون من هي أكثر جمالاً من هذه!!

هذه مشكلة بسيطة من ضمن سلسلة من المشاكل التي تأتي جرّاء كثرة الخيارات المتاحة وسهولة المتاح مقارنةً بحجم المسؤوليات التي تترتب على أن يقرر أحدهم الارتباط بعلاقةٍ جادة أو على أقل تقدير أن يتصرف برزانةِ وحكمةِ المتعقل.

لن أطيل في هذا الموضوع لأني أعلم يقيناً أن في جعبةِ كل منكم كمّاً من الأحاديث التي يمكنُ أن يطرحها في هذا السياق. محزنٌ أن نكتشفَ مع كل يومٍ نكبرُ فيه أن هناك من ما زال يعيشُ في مراهقةً فكرية مُزمنة -فكّ اللهُ عنه أزمته-!

كنتُ أعتقدُ أن “أعضاء شلّة” “ممكن نتعرف؟” ماتوا! إلا أنني اكتشفتُ مؤخراً أنهم مازالوا أحياءً يرزقون، لذلك أقول لهم ثلاث كلماتٍ فقط:

“ارحموا نفسكم شوّي”!

Similar Posts

2 Comments

  1. سيدتي الفاضلة..
    قلت: ولستُ هنا أتحدثُ عن الجانب الديني، ولا الجانب الأخلاقي، إنما عن الجانب الإنساني، جانب الخصوصية والحرية في التنقل والحركة دونَ أن تحسَ أنك مراقب من قبل الآخرين..
    هل يمكن لأحد أن يستخدم التكنولوجيا لا سيما التويتر أو الفيسبوك دون أن يكون مراقبا من الآخرين..؟؟هل ما زال عندنا خصوصية حقا..؟؟

    1. اعتقد ان التربيه لها دور في تكون شخصية مثل هالكائنات!
      من تربى في بيئة حسنة، يملاها الانضباط والالتزام الاخلاقي والديني،
      ماعتقد انه يفكر مجرد تفكير في التحول إلى كائن من فصيلة “ممكن نتعرف”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *