اتركوا يومَ القيامة، لربِ يومِ القيامة..!

قبل عدةِ أسابيع وصلتني عدةُ رسائل، “تُبشرُ” بقرب أيامِ المسيح الدجال، وتخبرُ بعلاماتهِ وكيفية وأسباب الوقايةِ من شره وبرهَن كاتبُ الرسالةِ “أياً كان” على أحاديثهِ بعدةِ براهين وساق أحاديثاً لا أظنهُ اكترث بمعرفةِ سندهَا ومدى صحتها. الأهمُ من وصلوها إليّ، حَالةُ مُرسليها المتناقضة والتي لا تدلُ مُطلقاً على وجلٍ من قربِ يومِ القيامة الذي يتحدثون عَنه..!

كثيرة المواعظُ التي نستقبلها يومياً، وأغلبهَا لم يعدُ يؤثرُ فينا كما يجب حيث تتفاوت درجاتُ التأثير في الناس. نستمعُ كل جمعةٍ إلى الخطبة وقد يتذكرُ بعضنا الفقراء بعد خروجهِ من المسجد فيتصدقُ لأنَ قلبهُ رقّ وثمُ نعودُ إلى حياتنا الطبيعة كما هي دونَ أن تتغيرَ جودةُ الأعمال التي نقومُ بها، ولا أن يؤثر ذلك على سير حياتنا بكل أخطائها. وليس ذلك لأن قلوبنا “خالية” من الإيمان، بل لأنها اعتادت الحديث “الخالي” عنه. فالأحاديث والقصص المؤثرة التي مرت علينا لسنوات تتكرر على مسامعنا بذاتِ الأسلوب، وذات الطريقةِ، دونَ خُلاصاتٍ ورؤىً جديدة مرتبطةٍ بالواقع أضف إلى ذلك أن أغلبها محفوظات لم تنقح بل وغير منطقية أحياناً. فكم سمعنا عن قصص يلفُها الخيالُ من أولها إلى آخرها، ثم إذا استنكرتَها على ساردها، يأتيكَ أحدهم مُشككاً في إيمانك وإسلامك “هل تنكرُ الكراماتِ الإلهية؟!”

كلا، العقلُ المسترشدُ بهديِ الله لا يشككُ في قدرةِ الله ولكن له القدرةُ والحق في التشكيكِ في فَهمِ مخلوقاتِ الله. وهنا يكمنُ الفرقُ بينَ المسلمِ المنتج لخيرِ أمته، والمسلم الذي لا يقدمُ إلا ما ينفعه في آخرته إن حسن إسلامه، فالأول عملهُ خير لنفسه ومجتمعه والآخرُ لنفسه فقط. إن “المعايير” التي يفرضها الخطابُ الديني في أغلبه الآن يفرضهُ بلغةِ العاطفةِ على المشاعر، لا بلغةِ المنطق على العقل. ومن هنا تأتي الاختلالاتُ الحضارية في معادلة البناء الإسلامي. إن انعدام التوازن بين لغة العقل والقلب يؤدي إلى اضطراباتٍ سلوكية وتشوهاتٍ جسيمة تفتكُ بأي مجتمعٍ يريدُ النهوض.

إن الأساليب الوعظية الغليظة التي يستخدمها البعضُ مقترنةً بالتهويل والترهيب، لم يعد لها ذلك التأثيرُ المُهيب لأن أساسَ فكرةِ الترهيب لدينا أنه يفرضُ ازاحة العقل، الذي  من المفترضِ استخدامهُ في كل وقتٍ وفي كلِ حين مع نمط الحياةِ المليءِ بالتحديات. لا يريدُ الشباب فرضَ تجارب الآخرين عليهم ليس لأنهم لا يدركون أخطائها، بل لرغبتهم في “التجربة الذاتية” التي تمنح شخصياتهم البعدَ القوي. لا يمكن للترهيب أن يكونَ أداةِ اقناعٍ في سبيل ما اقتنع به العقل وسلمِ بهِ الفؤاد. وليس بعيداً عنا موقف عبدالله ابن حُذافة السمهي الذي حررهُ الإيمان من كل قيودِ الخوف فكانَ هذا التحررُ خلاصَه. وهنا لا أنكرُ على مسألةِ الترهيب وورودَها ولكني أنكرُ الإكثار منها حتى يطغى ذلك على فاعليتها.

لم يعدُ بإمكان الكثير من الشباب الإستماع إلى الكثيرِ من المشايخ لأن خطابهم “شَاخ” وما عاد يتسعُ لاحتواء العالم المتضخم حوله، ولم يعد كثيرون يرغبُون في الاستماعِ إلى حديثٍ عن عذاب القبرِ وويلاتِ يوم القيامة أو أن العالم يوشكِ على الإنتهاء. وهنا تأتي أهميةُ قولهِ تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فالتذكير طارئ وليسَ أصل. إن أمر الإيمان مُتعلقٌ بصلاحِ القلب الذي يصلحُ المعيشة، فكل فردٍ في هذا الزمن لديهِ التزاماتٌ اتجاهِ نفسهِ وعائلته ومجتمعه فلو قضى أيامهُ على نسقِ ما يحّدثُ به بعضُ “المشايخ” لما أصلحَ نفسهُ ولا نفعَ مجتمعه. إن الوعظَ أداةٌ كباقي الأدواتِ التي قد تبلى بكثرةِ الإستخدامِ إذا لم يتم تشذيبها وإصلاحها على نحو يتناسبُ مع موضع استخدامها.

إن المجتمع السليم يعلي في الفردِ قيمة العمل حتى يكون فرداً “صالحاً اجتماعيا” وهذا لا يتعارضُ أو يتنافى أو مع صلاحِ علاقة الفردِ بربه. إن إحسان العمل في الدُنيا من صلاحِ العمل في الآخرة، ولولا أهميةُ العمل في كل الظروف وأشدها تعقيداً لما قال رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل). فليبدأ كل منكم بزرعِ فسائلهِ حتى تصبحَ نخيلاً مُثمراً دامَ النفسُ لم ينقطع عنَه بعد، واتركوا يومَ القيامة، لربِ يومِ القيامة {إِلَى رَبّك مُنْتَهَاهَا}.

Similar Posts

One Comment

  1. “إن المعايير التي يفرضها الخطابُ الديني في أغلبه الآن يفرضهُ بلغةِ العاطفةِ على المشاعر، لا بلغةِ المنطق على العقل.”
    “إن انعدام التوازن بين لغة العقل والقلب تؤدي إلى اضطراباتٍ سلوكية وتشوهاتٍ جسيمة تفتكُ بأي مجتمعٍ يريدُ النهوض.”
    “إن الوعظَ أداةٌ كباقي الأدواتِ التي قد تبلى بكثرةِ الإستخدامِ إذا لم يتم تشذيبها وإصلاحها على نحو يتناسبُ مع موضع استخدامها.”

    تسمحين لي بملاحظة بسيطة أرجو أن تتقبليها مني..؟
    أحسست بثقل من تكرار (إن) في بداية الفقرات.. مع ملاحظة أنني لم أنتق الجمل الثلاث السابقة للدلالة على ما أقول.. بل لأنها أعجبتني..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *