رَحلوا وبقينا
لا نجهز بيوتنا لاستقبال الأحزان. نعتني بأن يكون كل شيء مُرتبًا وأنيقًا لاستقبال ضيوف يشاركوننا لحظات الصفاء. نختارُ لكل زاوية شكلاً معيناً، ونَدرسُ سيناريوهاتِ اللقاء فيها. ولأننا غير مهيئون لاستقبال أي نوعٍ من أنواع الحزن، فإنه حينَ يباغتنا فجأة يطلي الجدران بلون الكآبة.
الحزن حاجةٌ لا مفرّ منها. الحزنُ مؤشر على الفطرية التي أودعهَا الله فينا ولولا الحزن ما استشعرنا السعادة فالأشياءُ تعرفُ بأضدادهَا. في الحزن تفريغٌ للطاقات السلبية المُتراكمة فينا والتي قد تتوهُ فينا قبل أن نطردها خارجنا. الحزنُ مجموع من القهر والكثير من الخيبات التي تتراكم عبر السنوات. لا نحزنُ ونبكي في آنٍ واحد من موقف واحد ويتيم بل نجمعُ كل الأحزان التي لم نبكِ عليهَا يوماً وعلى اللحظات التي لم نعبّر فيها عن مشاعرنا الحقيقية. الحزن في حد ذاته سلبي وايجابي. فالأول يمنعكَ من الحركة والثاني يقودكَ إلى ماهو أفضل.
طبيعتنا البشرية لا تُسعفنا بتخيل حياةٍ أخرى غير الحياة التي نعيشهَا في اللحظة. خُلقنا كذلك حتى لا ننشغل بما هو آت فيشغَلنا عن ما هو آني لأن على الحياة أياً كانت أن تستمر وعليها بلا شك أن لا تتوقف بموت أحدهم.
الميْتُ لا يأخذُ الحي معه، بل يودعُ فيهِ سراً من أسرار البقاء. فلنتخيّل لو أن كل ميْت قُدرَ له أن يأخذَ معه حيّاً يُحبه. كيفَ سيكون العالم؟ مقبرةٌ كبيرة فيها أمواتٌ كُثر والباقون الأحياء أمواتٌ من الحزنِ لكثرةِ الفقد! تقول الإحصائيات أن معدل الأموات في العالم يعادلُ سنوياً (56,597,034) فإننا بمضاعفة العدد سنحصل على (113194068) ميت، من أصل (6,446,131,400) من سكان العالم وهؤلاء الأحياء المتبقون لن يستطيعوا حل مشاكل الأيتامِ والأرامل والعجزة والمُحتاجين وحدهم! وعليهِ ستتضاعف نسبُ الفقر والبطالة وكل ما يحاول العالمُ التقليلَ منه ولن يكون العالم على ما هو عليه الآن، وقد لا أكونُ أنا أكتب اليوم هنا وقد لا تكونون أنتم تقرأون الآن!
كلُ روحٍ نُحبهَا ترحلُ عنا واجب علينا أن نأخذ كفايتنا من الحزن عليها، وواجب أن نذكرهَا و نُذَكِّر من حولنا بها. ولكن الأهم من ذلك أن نأخذ من روحهم التي كانت تشعُ النور فينا نوراً. ونقتبسَ من محاسنهم ونجعلهَا من محاسننا. فكما يوّد الميت أن يُذكر بالخير يوّد أن يكونَ موتهُ نبراساً ووهجاً. وأظن أنه لو كانَ لميت أن يعود لدقائق ويقول شيئاً لقال: “افعلوا ما لم أفعل صواباً واقتفوا خُطايّ في حسناتي وذروّا سيئاتي”.
هناكَ أناسٌ يزدهرونَ بعد فَقدِ من يعز عليهم، لأنهم على يقين أنها رغبة من فقَدوا. هؤلاء ينتصرون على الرحيل. شيء يُكسرُ فينا مع كل حالة فَقد ولكننا بأملنا بالمستقبلِ وحُبنا لمن رحل عنَا نجبرُ الكسر بالأمل والدعاء. الحب هو الدواء الوحيد لأوجاع الفقد. وهو الطبيب الوحيد لكل حزن. الحب إلهامٌ يأتينا من الراحلين والمُقيمين في الأفئدةِ والصدور. الحبُ هو الاشارةُ الخالدة على البقاء والحياة والعلاجُ الناجعُ للاستمرار والتقدم. لولا الحب والدفء الذي يمنحهُ لنا الأحياء ويظللنا بهِ الأموات لما استطعنا مواصلة الحياة. رحلوا وبقينا ليستمرَ نبضُ قلوبنا معهم، يدعو لهم مع كل تّذكر. فتتحول الذكرى نغمًا لذيذًا يخففُ وطأة الحياة.
إن الذين يدفنون أنفسهم مع من يرحل عنهم، لا يكفونَ عن تقليب المواجع على أنفسهم ومن حولهم وهم بذلك يسرفون في الحزن الذي يؤذي الأحياء ويحزِنُ الأموات. هؤلاء يجرحون الأحياء بعدم اكتراثهم لهم وندائاتهم للنسيان والمُضي قُدماً للحياة التي يتمناها لهم من رحل عنهم..للحياةِ التي يجب عليهم مراعاتها. في الفراق والفقد نبضةٌ تودع في قلوبنا أبدًا، الراحلونَ مقيمون في دعاء القلب الفَاقدْ.
للفقد رائحة تشع منّا مع كل حزن وتختفي تدريجياً مع دخول الحزن بوابة الاعتياد، وتعاودنَا كلما مرت بنا ذكرياتُ الراحلين. الفرق في سؤال: كيف يتعاملُ أحدنا مع فقد عزيز؟ هل نستثمرهَا في دافع ايجابي للحياة، أم تحبسنا المرارةُ في غياهب الماضي حيثُ لا خلاص؟ الحزنُ اعتياد. وحينَ يصبح كذلك لا يتعاملُ معه الآخرون كأول مرة، وبعد زمن لا تقنعهم الأفعال الصادرةُ عنه فيتسللُ الضجر إلى النفوس. فالحزنُ لا يبرر التصرفاتِ الغير المسؤولة لأنها تؤثرُ عليهم سلباً. ولا أحد يستطيعُ الانتاج وهو يحملُ مشاعر سلبية مُستمرة.
عاودوا لملمة جراحكم، وارسموا خطّين متوازيين أحدهم للذكرياتِ الأليمَة وآخر للذكريات التي تودون الإبقاء عليها وضعوا الأخيرة تحت وساداتكم حتى تشحنكم لغدٍ أجملَ كل يوم.
لقد فقدت اثنين من بناتي منذ حوالي سنتين وكل يوم يمر عليه كلني فقدتهم امس ا والاعجب ان حزني اصبح وراء صمتي ولا أظهره لاحد