المصنّفون في الأرض
تصلني بين الحين والآخر طلبات على شبكات التواصل الإجتماعي بعدم وضع روابط تحتوي على الموسيقى. وأحيانًا بعدم مشاركة بعض الكتب بحجةِ أنها لا تتناسب مع “الدين” وحتى صورة المعرّف الخاصة بي (صورة فتاة تقرأ على درج في مكتبة) لم تسلم وذلك بحجة أنها “غير محجبة”!
ما يحدث أن أحدهم يحاول جاهدًا ضمّك إلى قالبه الذي يرى منه الدنيا وينسى أنك أيضًا تمتلك قالبًا خاصًا بك. هذه حلقة في سلسلة طويلة يومية تبدأ منذ ساعة استيقاظك صباحًا باختيارك للنظر إلى الحياة في حلةٍ بهية أو أخرى بائسة. فقد ترى شخصًا جالسًا في المقهى وتحاول وأنت سارحٌ في خيالك إلى تحليل جلسته ومناقشةِ فرضياتِ وجوده في ذات المقهى معك هذا الصباح. متقاعد؟ هارب من عمله؟ ينتظرُ أحدًا؟ رجلُ أعمال؟ وفي النهاية سيتنهي بكما المطاف إلى خارج المقهى كل في طريقه لإكمال حياته وأنت ما زلت في هلوساتك، وكل ما في الأمر أخيرًا أنك قضيت ساعة في تدّبر أمر غيرك ونسيان تدّبر أمر نفسك وهي الأولى بك.
إننا ندخل أنفسنا دون أن نشعر في معارك لا طاقة لنا بها، تشغلنا ولا تنفعنا، تستنفدُ طاقتنا وهذه الطاقة هي ما لدينا لمواجهةِ الحياة. الإنشغال السلبي بالآخر هو أن تحاول جاهدًا تصنيفه ثم تجريمه أو تجميله لتستطيع التفاهم معه. والأولى أن تتفاهم معه دون أن تلتفت إلى ما هو عليه ودون أن تحاكمه بما تريده أنت أن يكون عليه. إن عبء الإنشغال السلبي يقع على الطرفين فلا “المنشغِل” يهدأ باله ولا “المنشغَلُ به” يقبل هذا التصنيف الغير مبرر إذا أحسَ به. وليس ذلك إلا مضيعة للوقت. فهو ليس تواصلاً ايجابيًا تقوم به حياة، بل على العكس فقد يهدم ذلك حياة أحدهم أو يزعزع ثقة أحدهم في نفسه إذا كان ضعيفًا.
محاولات التصنيف ليست إلا محاولات لتضييق الحياة واختصارها في وجهةِ نظر واحدة وتصورٍ واحد وشخصيةٍ واحدة. ألم يخلق الله من ذات التربة أشجارًا متنوّعة ملونة بعضها بثمر والآخر بلا ثمر؟ إذا كان الله يريد للحياة حولنا أن تكون بهذا التنوّع، فكيف يحاول البعض جعلها واحدةً بيننا بإسم الله أيضًا! إن فهم الحياة والدين بشكل قاصر لا يمكنه انتاج إنسان سوّي ولا حضارة لها صوتٌ مسموع ورأي فَصل.
يقول سورين كيركغارد الفيلسوف الدينماركي: “بمجرد تصنيفي فأنت تلغيني”. حاول ليوم واحد أن ترى أحدهم دون أن تحكم عليه على أي شيء ولأي شيء. حاول أن تسمعهُ قبل أن تقول له رأيك في أفعاله وتصرفاته وأقواله. حاول أن تراه إنسانًا مجردًا من أفكارك التي لا يراها هو. حاول أن لا تفكر فيما سيقول وتفكر في ردك على ما سيقول لأنه ببساطة قد لا يرد! فرقٌ بين من يحاول أن يفهمك ليطورك ومن يحاول أن يصنّفك ليحطمك. غواية دور “المخلّص” لا مثيل لها لأنها تعظّمُ دوره وتقلص الباقيين وهذا الشعور كالمخدرٍ ينتشي به لوهلة ثم قد يتحملُ ويلاته عندما يوضع في موضِع “المُقلص”.
لا يوجدُ إنسان كاملٌ على وجهِ البسيطة، ولكن يوجدُ إنسان يحاول أن يجعلها أفضل بانشغاله في نفسه وتطويره لها. الحياةُ معقدة بما يكفي فلماذا نسعى لتعقيدها أكثر بتصنيفاتٍ ومحاكمات تجر لخصومات أبدية؟ تخففوا من حملِ أفكاركم. انظروا إلى العالم لا ببصركم بل ببصيرتكم ففيها قلبُ الحكمة.
تغول هذه الظاهرة في مجتمعاتنا بلغ حد الجنون بل تجاوز إلى كبار الأساتذة والأكاديميين .. كيف يغفر لنفسه كل ذلك ؟!
يتلألأون على حساب هذا التصنيف البغيض .. المجتمع المتحضر يختلف على أسس ويبقى احترام الآخر أساس . أتحاشى الدخول إلى مستنقعات التشرذم والتصنيفات .
من يمر من هنا دائما لا يفاجأ بحجم التكامل .