الحواسُ المحرمة..!
تخيلوا لو قيل لكم غداً ستكونُ الدُنيا بلا ألوان، بلا أصوات بلا أي شيء يجذبُ العين لتنظر إليه بإعجاب؟! كيف سنتمكنُ من العيش بلا ألوان ولا أصوات ولا مناظر أخّاذة؟! تخيلوا الحياة بلا فنٍ اطلاقاً. وأقصدُ هنا الفنَ بمعناه الواسع من الابداع الرباني للكون إلى إبداع عبدِ الله المُسخر لإعمار الأرض.
الحنجرة..
ماذا لو اختفت الأصواتُ الجميلة أو احتفظ أصحابها بها لأنفسهم؟ ماذا سيبقى لنا من الأصوات؟ إلى ماذا سنستمع؟ وكيف ستطربُ أسماعنا للقول الحسن؟! يجذبني مثلاً الطربُ الأصيل..الكلمةُ الرقراقة..اللحنُ العذب لأنها ثلاثية لو اكتملت أثرت في الوجدان وكان لها أثر السحر على هدوء النفس والاتصال بالذات. وأستغربُ ممن يأتي ناصحاً ومعاتباً ويقارنُ أغنية بكلام الله عزّ وجل! مُتناسياً أن القرآن يُتعبدُ به وهو مِنهاج حياة. أما الأشياء الأخرى فهي هِباتٌ منحها الله لنا لتبدو الحياة في عيوننَا أكثر رحابة.
اليد..
ماذا لو اختفت قدرةُ الإنسانِ على الرسم والنحت؟ ماذا لو اختفت كل اللوح من كل العالم ولم يبقى لنا أي شيء يدلنا على أثر من كانوا قبلنا. ماذا لو لم يعبر الفراعنةُ عن حضارتهم بالرسم والألوانِ؟ كيف كنا لنستدل على أنهم كانوا هُنا بحاضرة مترفةٍ مليئة بالأسرار؟
كم رساماً ماهراً قيل له (اعمل شيئاً ينفعك..واترك عنك الشخابيط)؟! كم طفلاً كان ينسى نفسهُ بين ألوانه ثم حين ينتهي فخوراً بما أنجز، لا يقابلُ بأي نوع من أنواع التشجيع ويقال له: (خلّ عنك وروح ذاكر)؟ كم فناناً كان سيكون لدينا مؤثراً في عالم الفن، مخترعاً لتقنيات جديدة أو راسماً وجهاً جديداً مُشرقاً لتاريخ حديث؟!
الحواس الخمس..
سينما هوليود، تلك السينما التي تُمتعُ عقولنا كما تطيّبُ قلوبنا. نُشاهد أفلام الصغار قبل الكبار فيها. أنتجت هوليود في 2011 ما يقارب 150 فيلماً، باعت فيها حوالي (1,284,440,101) تذكرة، باجمالي ربح يقدر بحوالي (10,185,610,000) دولار أمريكي. أما السينما المصرية فقد بلغت أرباحهَا (114) مليون جنيه فقط! هذا التفاوت يدلنا بشكل قطعي على مستوى الأفكار وارتباطها بثقافة الفرد.
كل ما سبق يدلل على علاقتنا المضطربة بالفن. وقصر فهمنا له بالشكل الأعمق والأشمل الذي يلهمُ الإنسان لعمل الأفضل، ويلهمُ البشرية لما هو خير. بحثت عن كتب تتكلم عن الفن في الإسلام ولم أجد كتباً تتحدث عن الفن في الإسلام بشكل عام وشكل جلّي يضعُ النقاط على الحروف. كل ما هناك مقتطفات عن مواضيع متفرقة (الغناء-المعازف-الرسم) بتركيز على جانب التحريم فيها لا الحلّ. يَفهم الكلُ أن الحلال بيّن. وأن هناك ضوابط شرعية تقنن كل ذلك. ولكن يبقى السؤال قائماً: لماذا لدينا مبدعين محترفين قلة في هذه المجالات؟!
ينادي البعضُ بحصر استخدامِ كل ممكناتِ الإنسان في “العبادة” قاصراً إياها على العباداتِ البدنية (كالصلاة والصيام) مُتناسياً أن طلب العلم والاختراع والابداع (عبادة)، أن التجديد والمُنافسة الشريفة (عبادة)، أن اللحاق بركب الأمم التي تقدمُ للإنسان العيشة الكريمة والحرية والقيمة الذاتية (عبادة)!
ويحاول البعضُ بفهمه أن يُعيشنا في حياةِ قاتمة بلا مبرر سوى أنه لا يفهم كما نفهم، لا يرى كما يرى، لا يتأملُ كما نتأمل! وليس ذلك مستغرباً في ظلّ السطوة “التدينية المضطربة” -مهما اختلفت درجتها- وجود هذا اللبس في أذهان الناس. ذلك أن الفقه لم يجدد ولم تحدث فيه مراجعات جدية على مستوى الأفكار والخطاب بشكل يتناسب مع متطلبات العصر. وعليه يكونُ أي شيء منسوباً للفن (ضياعاً للأوقات) أكثر من كونه أداة فاعلة في نهضة الأمة. ولا يخفى على المتتبع للسياقات التاريخية أن من عوامل النهضة الأوروبية نزول أفكار النخب إلى عامة الناس عن طريق الفن كالمسرح وغيره. لماذا لأن الفن يضفي لحياتنا طعماً آخر، لأنه تجربة انسانية محضة تبثُ من خلالها كل الأفكار. تجربة تُستعرض فيها الطموحات والنجاحات كما تستعرضُ فيها الخيبات والآلام. الفن وسيلة الإنسانِ الطبيعية للتعبير عن ذاته لأن الله زوده بحواس خمس وأكثر. أعطاه عقلاً ومشاعر. أعطاه قُدراتٍ مهولة كلها مُسخرةٌ لتسخير الأرض واعمارها العملان اللذان في أصلهما عبادةٌ لرب الكون. الفنُ هبةٌ من الله لجعل هذا الكون أجمل. فلما يصرُ البعض على تشويهه؟!
الحنجرة واليد،
ما فائدتهما إذا لم يلقيا تلك الأذن الحانية التي تسمع الفن بجمال، وتلك العين التي تتغزل وتتلذذ بتلوين طفلٍ على كراسته، الفن والجمال في أرواحنا، بداخلنا، خلقا معنا، وسيذهبآن معنا،
الحنجرة هيَ نفسها التي تغني بها أم كلثوم ، وذاتها التي يتلفظ بها الشخص البذيء ، الفن ، هوَ في ذواتنا ولكن أين المتذوقين؟!