المدنُ التي تسكننا ولا نسكنها

أكتبُ هذا المقال وأنا أمام البحر الأحمر، تحديداً بحر جدة البهيّة. القمرُ في أبهى حُلة منعكساً على الماء الذي تداعبهُ النسماتُ الباردة وأصداء (النافورة) التي تلوح أمامي من بعيد تجعلني أفكرُ في جمال هذا المنظرِ وروعته وكيف إنّي أحبُ جدة بلا مُقدمات فهي من المدنِ التي تسكنني ولا أسكنها. ولا أجدُ حلاً للشوقِ لها إلا بالعودةِ إليها.

بعضُ المدنِ لديها قدرةٌ هائلةٌ على رتقِ الأرواح الممزقة. تحسُ مع كلِ خطوة تخطوها فيهَا أن جزءاً من داخلك يلتئم، وآخرَ يُزهر. تُجددُ الأمل فيك لتدرك أن الحياة بإمكانهَا أن تهب أشياء جميلة وصغيرةِ قد لا تكونُ في الحسبان، ولكنها تُشعركَ بقيمةِ الحياة فتقدرها أكثر. هذه المدنُ تُدخلك في سلامٍ مع روحك، وتجعلك تغفرُ لنفسك خطاياها المتكررة فهي تُقربك لجانبك النورَاني وتربطك به. إن المدن التي تقربنا من أرواحنا هي مدنٌ آمنة والعودُ إليها مُحَتَّم.

المدنُ تشبهُ ارتباط الإنسان بالإنسان. البعضُ تحبهُ من أول نظرة، ترتاحُ له ثم توطدُ معرفتك فيه بناء على أول انطباع. والبعضُ لا يعنيك مُطلقاً إن رأيتهُ مرة أخرى أم لا. وآخرون قد تنفرُ منهم ولا توّد أن تراهم مرة أخرى ولو حتى مصادفة. الانطباعُ الأول عن مدينة ما، ليس الذي تأخذهُ من اللمحةِ الأولى عنها، بل عندما تتوغلُ فيها وتعيش تفاصيلها الدقيقة. تقتربُ من أناسها البسطاء، تتعرفُ على عاداتهم، تتابعُ حركة المرور فيها، ترخي السمعَ لألفاظ الناس الخاصة، تأكل من المطاعم الصغيرةِ المندسة في الزقاق المنسية. تتمشى في الأحياء المفعمة بالحياة. تذهبُ إلى المناطق التي لا يزورها السياح العاديون. هذه التفاصيل هي التي تثري أي مدينة وتجعلها تستعصي على النسيان. تفاصيلُ المدنِ الصغيرة تشبهُ ضخّ القلب للدمِ إلى جميع أرجاء الجسم، التفاصيل تزوّد المدينةَ بحياتها، وتجعلك تعيش مزاجها الداخلي.

أغنى المدن تلك التي تحتفظُ بتاريخها وتتطورُ بما يتناسبُ مع هذا التاريخ. المدنُ العريقةُ نوافذٌ تطلُ على الماضي، وأبوابٌ تفتحُ المستقبل. المدينةُ الأنيقة هي تلك التي تحتفل بتاريخها فتمنحها قيمةً حضارية متميزة تنعكسُ على قاطنيها. هذه المدنُ تنطوي على ثقافةٍ تُكسبُ المرء علماً من حيثُ لا يدري. ومن لا يستغلُ هذه الفرصة المعرفية لا أراه إلا شقيّاً. المدنُ كُتبٌ معرفية ضخمة لمن يجيدُ قراءة ما بين السطور.

هل شعرت يوماً أنك تنتمي إلى مدينة ما؟ أنك تمثالٌ خالدٌ فيها؟ أنك جزء من أشجارهَا، من جمالها، من فوضاها العارمة، من أنفاسِهَا في المساء؟ هذهِ هي أجملُ المدن، ويجدرُ بها أن تسمى (مسقطَ القلب). لأنهَا ترتبُ مواطن الحنين، وتنسجُ علاقةً روحية بين المرء وقلبه. فيكونُ فيها في أسمى حالاتِ التجلّي والتهيّام.

المدنُ التي نجدُ فيها قلوبنا تصبحُ وطناً جديداً خالداً يظلُ راسخاً فينا مهما طال الزمن. تتكررُ في مناماتك وتُنبتُ على أطرافِ شفتيكَ لغةً أخرى تحسُ أنها تفيضُ من كوثر الجنة. وفي كل مرةٍ تشد الرحال إليها، ترتبُ حقيبة سفرك بطريقة مختلفة؛ تعتني بانتقاء ملابسك. بلونِ أحذيتك، تدسُ الشوقَ فيها عِطراً وتمنّي نفسك بابتساماتٍ لا تنتهي، تبدأ منذُ اللحظاتِ الأولى التي تخطو فيها إلى المطار، وتنشرهَا في الطائرة وتلبسها كرداءٍ ساحرٍ طوال الرحلة. هذه المدن تنقش خارطتها على دمك، فتجري فيك ما جرى الدمُ في العروق. وطن الإنسان الحقيقي هو الذي يجدُ نفسَهُ فيهِ متصالحاً مع قلبهِ، متناغماً مع جسده، مُشرعاً أبواب روحهِ لكل جديد.

أن تكتفي بالمشي في مدينةِ تعشقها، كفيلٌ بأن يقربك من ذاتك ويجعلكَ تتعرفُ عليها وكأنك تكتشفها للمرة الأولى. كمرآة لا تعكسُ شكلك الخارجي فقط بل تعكسُ أفكار عقلك ونوايا قلبك وتترجمها لك بلغةٍ أخرى وطريقةٍ تجعلك تدرك معها المواضع التي تحتاجُ إلى تغيير فتراجعُ توجهاتك وتصحح اتجاهك. إن التغيير الذي يطرأ عليك وهو نابعٌ من داخلك بكامل قناعتك خيرٌ من التغيير الذي يفرضُ عليك بلا حول منك ولا قوة.

يقولُ أحدهم: ” أن المدينة العظيمة هي التي تسكنُ صورتَها في ذاكرة المرء، هي التي تلهمه فكرة ما”.

Similar Posts

3 Comments

  1. السلام عليكم
    عزيزتي شيماء بارك الله فيك وفي قلمك المتميز .. تمنياتي لك بالتألق الدائم

    دمت

  2. شيماء الحبيبة،
    سطورٌ نَيّرة ، لامست اعماقي. لعل الدوحة هي العاصمة التي أسكنها وتسكُنني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *