نحنُ والبكاءُ والأمل

متى كانت آخر مرة انهرت فيهَا أمام مرآتكَ باكياً دون أن تدري لمَ، ومرّ عليك شريطُ حياتك كاملاً بكل ما فيه من فرحٍ وشجن؟! هل تتذكرُ متى كانت آخر مرة شعرت فيها أنك تريدُ أن تبكي، وبكيت حقاً؟! كم مرةً تجاوزت هذا الشعور وكتمتهُ أو حولتهُ إلى نكتةٍ مطوّلة يضحكُ عليها الآخرون وتبكيها أنت بداخلك طويلاً؟

شخصياً. أفعلُ ذلك كثيراً وأنشغل عن نفسي بأشياءٍ أخَر، ثم أجدُ نفسي بعد مُدة أشعرُ بحاجةٍ ملحةٍ للبكاء فتبكيني أبسطُ الأشياء! نحنُ بشر. نختبرُ يومياً الكثير من المواقف، بعضهَا يؤثرُ فينا والآخرُ نؤثرُ فيه. وتتوالي على نفوسنا مشاعرٌ لا يمكنُ حصرهَا وإذا لم نتعامل معها بشكل صحيح ستؤثرُ علينَا سلباً لا محالة. لذلك علينَا أن نتخلص من تأثيراتها السلبية بشكل مستمر.

البكاء ملاذٌ آمن، لا يلومُنا ولا ينتقدُ جروحنا ومن لا ينتقصُ من مشاعرنا ولا يزيدهَا حُرقة. كصديق مُخلص يلازمنا في الضيقِ حتى تتنفس بشكل طبيعي ثم يدارينا حتى بصمته. هكذا البكاء يعيننا على قضاءِ حوائج نفوسنِا التي تريدُ ولا يقدر لها، ترفضُ فتجبَر، تستاءُ وتجذل. قلوبنا الصغيرةُ تبكي حينَ تشتاقُ لأشياء لا يمكن ادراكها أو لزلاتٍ تَرتجي أن يُغفر لها. أرواحنا حين تتوهُ منا نبحثُ عنهَا في البكاء فنجدها تنتظرنا لنعيدها إلينا.

البكاءُ حاجةٌ إنسانية ومن لا يبكي كمن لا قلب له. كثيرون ينتقصون من البكاء ويعتقدون أنه ضعف، ويسارعون إلى مسح دموعهم حين تنفرُ من أعينهم بغتةً متناسين أن ذلك إنما يدلل على حسّ الإنسانية فيهم. فالقلب الحيّ هو الذي يدمعُ عندما يتأثر. البكاءُ لغةٌ يفهمها الكلُ لأنها كالإبتسامة تقولُ كلاماً لا تنطقهُ الشفاة. لغةٌ يفهمها الكبيرُ والصغير والناسُ على اختلافِ أجناسهم لأنها لا تعترفُ بشيءٍ سوى الإنسانية والإنسانية وحدها. يقول فيكتور هوجو: “من لايبكي لا يَرى!”.

نلملم بالدموع مساحاتِ الشتات التي تعيثُ في داخلنا تيهاً وبذلك نستطيعُ التماسَ العذرِ للحياةِ على طبعها المتلقلبِ معنا حتى نمضي قُدماً. فالبكاءُ يعيدُ تشكيلَ انكساراتنا وخيباتنا ويجعَلُ أطرافهَا أنْعم فنستطيع تَقبلها دونَ أن تجرحَنا أكثَر. كل انكسار نمرُ به يجعلُ منا كائناتٍ أقوى وكل خيبةٍ تجنبنا خيباتٍ مستقبلية أكبر وذلك يعتمد على طريقة تعاملنا معها. هناك من يراكم في نفسهِ فيكونُ مشحوناً غير قادرٍ على الوقوف على أرض واحدة لجل ما يعاني. وهناك من يأخذُ نفساً عميقاُ وينظرُ في نفسه وما حولهُ ثم يعود للممارسةِ حياته بشكل طبيعي بعد التفكّر. آلامنا تصقل شخصياتنا وتجعلنا ننضج بشكل أكثر ملائمةً لنمط حياتنا. في كلِ بكاءٍ فسحةُ أمل، وفي كل أملٍ خيرٌ يلوحُ في الأفق.

تقول أباجيل سان، أخصائية علم النفس السريري: “عندما نعاني من ضغوط أو استياء من أمرٍ ما، تتراكم المواد الكيميائية في أجسادنا وتختل تركيبتها، والبكاء يساعد على التقليل من آثار ذلك”. وتقول في ذات الدراسة “يساعد البكاء على التخفيف من التوتر بذات القدر الذي يخفف منه التعبير عن المشاعر”. وعلى ذلك ليس كل بكاء سلبي، وليس كل بكاء يدلُ على حزنٍ وألم، بل يبكي المرءُ لمجرد لتفاعل كيمياء عينيه مع مستوى مشاعره في حالات الفرح والرضا أيضا. بعضُ البكاءِ خيرٌ من عيونٍ لا تدمعُ أبداً.

يؤلمنا الرحيل، ويؤذينا الغياب وقد تقسو علينَا الأقدار يوماً ولكن حينَ تمنحنا الدنيا سبباً للبكاء، علينا أن لا نحزنَ مليّاً، بل علينا أن نبتسمَ لأنها منحتنا الفُرصة للنظرِ للأشياءِ بعينٍ أصفَى. النفسُ بعد البكاءِ تخلدُ للسكون وتركنُ للهدوء وهذا ما يجعلُ مساحة التفكير السليم أكبر، ويمنحُ فرصة لاتخاذ قراراتٍ أفضل. كما تبكينا الحياة فإنها تعطينا أسباباً للفرح. الراشدُ فقط من يستثمرُ أوقاتَ الألم ليفتحَ أبواب السعادة.

Similar Posts

3 Comments

  1. السلام عليكم..
    جميل ما كتبت.. كالعادة..
    كل جملة فيها معنى.. مكتمل.. رائع.. أحسست بمتعة عند قراءتها على تويتر مع أنها تتكلم عن البكاء.. فنحن أمة باتت تنتشي بالحزن وترى فيه الجمال وتطرب له.. أكثر من طربها للسعادة..
    حين قرأت النص هنا شعرت أنه مقطع.. غير مترابط.. كأن الجملة لا تنتمي للجملة السابقة.. ربما أكون واهما ولكنني أحسست أنه كمقال يختلف عن أسلوبك المعتاد.. لذا أحببت أن أودع هذه الملاحظة هنا.. آملا أن تعذري تطفلي.. راجياً ألا تنشري هذا التعليق.. دمت بخير..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *