عُرسُ المَطر*
خُطواتٌ كانتْ تَفصلهُمَا عن اللقَاءْ. السَماءْ ما تَزالُ تحبسُ أنفاسهَا وتعدُ هذه الخطوات، غير آبهةٍ بالغيماتِ المُثقلة، والريحُ مُطيعةٌ مهادنة، تحاولُ تلّمسَ الرضا. كُل خطوةٍ كانت بأمل، كلُ خطوةٍ موعودةٌ بحياةٍ أخرى. الأنفاسُ المحبوسةُ في انتظارِ اللقاء، سكتةٌ قلبيةٌ صُغرى تُداويهَا النظَراتُ المخطوفةُ والشفاةُ المنذورةِ للقُبل. يرنُ في أذنهِ صوتُ (بو نورة) مُترنماً من بعيدٍ عذبةٌ أنتِ*..”عـذبة أنـت كـالطفولة..كالأحـلام.. كـاللحن.. كـالصباح الجديد”. يخيلُ إليهِ أن الكلَ مُبتسمٌ له. وحتى الشِتاءُ أحنُّ ما يكونُ عليهِ. الشتاءُ في حضرةِ الحبِ دفءٌ خريفي. فيهِ تجددُ روحُ المحبين وتتعرّى فيهِ ذاكرتهم من كلِ ما ساءَها ويبْقَى أصلُ الحبِ ثابتَا وفرعهُ في نماءْ.
يُسابقُ خطواتهَا إليهِ حنينُها، فتتعثرُ بالشوقِ ويُقيلُ عَثرتَهَا الهَوى. تنظرُ إلى السماءِ بحبٍ: جودي يا أمَل الآملين، وأمانَ المُنتظرين. تردُ عليها السماءُ ببريقِ نجمةٍ ساهرة. مُتحضرةً لكلِ “سنياريوهَاتِ” اللقاءِ. (قدْ يميلُ عليّ فَيحييني). (أو أقدمُ يَدي عطيةً فَيردهَا لي بقبلةٍ ناعمةٍ ناعسة). تقررُ أن لا تفكرَ أكثر، فأكثرُ اللقاءاتِ ارتجالاً، أكثرهَا التصاقاً بالذاكرة. تتذكرُ: “خَـفَقَ القلبَ للحياة ورفَّ..الزَّهرُ فـي حـقلِ عـمريَ الـمجرودِ”. يدقُ قلبهَا. إنهُ هَا هُنا، ترى ابتسامةَ ثغرهِ تَحتضِنُهَا من بعيدِ. تسمعُ قلبهُ يُنشد: “عـذبة أنت كالطفولة..كالأحـلام.. كـاللحن كـالصباح الجديد، كالسَّماء الضَّحُوكِ.. كاللَّيلَةِ القمراءِ.. كالـوردِ.. كابتسامِ الـوليدِ” فيردُ قَلبهَا البَارُ: وَيحَ قلبي..إنّي أسمَعُ ارتدادَ الطرفِ منْكَ إليّ.
تُخفقُ كلُ نظرياتنا في شكلِ اللقاءِ الأول. التقيا..فدارت الأرضُ غُنجاً، تأملا وجهَ بَعْضِهما؛ الحقيقةُ أعذبْ. التقاءُ العيونُ عناقٌ عميقْ. كانت ابتسامتُهمَا روايةً أخرى. قال لها: “كلَّما أَبْصَرَتْكِ عينايَ..تمشينَ بـخـطوٍ مـوقَّـعٍ كـالـنَّشيدِ..” أكملت عنه: “خَـفَقَ القلبَ للحياة ورفَّ..الزَّهرُ فـي حـقلِ عـمريَ الـمجرودِ”، إني سمعتُ شدوّ فؤادكَ الجذلِ وغارت أنْجمي. كانَ شوقهُ لحديثهَا أكبر من كلِ الكلمات. هي تقولُ له دوماً: الصمتُ بيننا أبلغُ حديث. الصمتُ بيننا ثرثرةٌ لا تنتهي!. يؤيدُ خافقهُ كلَ كلمَاتهَا فيؤثرُ الصمتَ وتدرك هي إيمانه.
لم تتمالك السماءُ وقعَ الحبِ أكثر. كانتْ غوايةُ صَمْتِهما أكبر. وقبضَ كليهما على يدِ الآخرِ، فكانت فتنةً أشد من وَله. فجادتْ بهَتّانٍ لينزويا. فوحدهَا السماءُ تعرفُ نزعاتِ قلوبِ المُحبين. فآواهَا إلى ركنٍ في إحدى الزوايا العتيقة. ونظرَ في عينيهَا مليّاً: إنَها إشارةُ السماءِ لِقبلةِ اللقاء. مع الضوءِ الخافتِ في هذه الزاوية انعكسَ لونُ كنزَتِها الحمراء على وَجنتيهَا. قرّب ثغرهُ النَدي من أذنِها وقال: “يا ابنةَ الـنُّورِ إنَّني أنا..وحدي مـن رأى فـيكِ رَوْعَـةَ المَعْبودِ”. أمالتْ رأسَها على رأسهِ وردت: إنَ الهَوى ما ابتَدى إلا إليكَ، وما لهُ أن ينْتَهي وأنتَ عذبُ الهَوى.. لينُ العُودِ.. أمَانُ القلبِ وسِدرةُ المُنتهى. جادت السماءُ حِينَها بضوءٍ أزاحَ الخجلْ، فصارَ الكونُ نوراً على نور والأرضُ تحتَ قَدميهِمَا سَريَا. كَانتْ قُبلةً معجونةً من صبرْ، فنبتَ على شفتيهِما بعدَهَا رَوحٌ وريحانْ. قُبلةُ الشوقِ آسرة، وقبلةُ الصبرِ مُتألِه. حينَ تمتزجُ قُبلةٌ واحدةٌ بحنانٍ وأمْن تَصعدُ روحٌ واحدةٌ إلى السماء ويصدحُ صوتٌ واحدٌ بالغناء:
“حبيبتي.. أشتاق أنا لعرس المطر
وأشتاق لألوان الفصول
حبيبتي
كل المسافة لك سفر
وكل المشاعر لك رسول
لا ضمني جدار الظلام
اشتاق لك
ولا خانني معنى الكلام
أحتاج لك..”*
___________
* أبو القاسم الشابي ،غناء محمد عبده
* غناء عبادي الجوهر
* * *