كِش ملك
لم يكن ليتخيّل أن فتاةً ترتدي حذاءً مُسطحًا يشبهُ لون بشرتها القمحي وترتدي ألوانًا زاهية، مِعطفًا على شكلِ لوح شطرنج على التحديد ولكنه باللون الأبيض والأصفر، وبنطالاً باللون الأبيض قد تُعجبه. ولم يتصور أن يلتفتَ لها كما لم يلتفتْ لفتاةٍ من ذي قبل بأن يجعلَ نظرتهُ التي اعتاد أن تكون عامةَ جدًا، خاصةً جدًا ومتفحصة كمن رأى وجههُ في المرآةِ فجأةً وتذكرَ ملامحه. كان يظنُ دومًا بأن فتاتهُ التي سَيحبها عُمرهُ كُله ستكونُ في صالةٍ كبيرة، تدخلُ من الباب الخشبي المزخرف ويدخلُ الهيامُ مَعها، تتآمر دقاتُ قلبه مع وقعِ كعبها العالي وتتعلقُ نظرةُ عينيهِ على شفتيها حينِ تعضُ على اللونِ الجوريِّ وهي تدوسُ طرفَ فستانها الطويل وتكونَ على وشكِ سقوطٍ وشيك. التأرجحُ الطفيفُ الذي يجعلهُ تلقائيًا يقول: الله سَلمْ. الإعجابُ سيحدثُ من البعيدِ أولاً وسيكون كفيلاً بأن يُقرب كل شيء بعده. كانت نظريته: (لا تقترب حتى تُرى، ولا تتحرك حتى تنتظرَ الإشارة). دبلوماسيًا وكل الخطواتِ مَدروسة. لكن ذلك لم يحدث أبدًا، كانَ عمرهُ قد كُتبَ في روايةٍ أخرى تمامًا.
لم تكن نصف الابتسامة المُحرجَة التي قابلتهُ بها وحدها التي شغلته، بل النظرةَ التي سقطت في عينيهِ فجأة ثم تتبعت سبابته على مهلٍ وهي تشيرُ إلى أن الدرج من هنا، إلى أن طريق النزول إلى الأسفل ناحية وقوفهِ هو. كان ينظرُ إليها بابتسامةٍ كاملةٍ ويحرك شفتيه كأنه على وشكِ كلام. كل الأنصاف كانت في الصدفةِ الأولى إلا نظرتهُ هو كانت كمالاً تشبّع منه حتى حين. نَزلت هي وانتشى هو مدركًا ثلاثة أشياء: أنهُ أعجب بها على نحو لم يتوقعه وأنها لم تَرهُ بوضوح لأنها ترتدي نظارةً طبية وأنها لم تسمع صوته لأنه كان مشغولاً بالتبسم لها. وهذه أشياء لن تغريها بالعودة إلى مكانهِ من جديد. نزلت هي وصعد هو ليسأل عنها الموظفة في الطابق العلوي. لم يكن يحتاج للكثير من الذكاء ليبرر سؤاله عنها للموظفة. ولم يحتج لحجج أخرى ليأخذ مِعطفهُ الطويل جدًا ووشاحهُ الدافئ ويخرج خارج السِفارة. زقاق ضيق واحد يؤدي إلى الشارع الكبير. الحديقة الكبيرةُ أمامه. والشوارع فسيحة ومتزينة. هاجسٌ مرَ به يسأل: أي اتجاهٍ سلكت والدُنيا كلها عيد كبير؟ حدسهُ قال له: باتجاه اليسار. تَذكرَ قلبه. استدرك؛ الفندق. وقف على حافة الرصيف. اللونُ الأصفرُ بدا واضحًا متصالحًا مع اللونِ الرمادي، اللونُ الأخضرُ كان يلوحُ في أمامه والسيارات ملونةً وفاتنة. انتبه أنه تنبهَ للألوان وأن العالم لوهلةٍ بدا مختلفًا. أرخى يديه دون سيارات الأجرة وقرر أن يمشي باتجاه اليسار وأن يرى الحياةَ التي تمرُ حوله دون سرعةِ السيارة بل خطوات قدميه. فكّر أيضًا أنها ولربما تمشي أمامه الآن ولكنها تسبقه بخطوات كثيرة. ربما لن يستطيع اللحاق بها. ودون أن يُفكر: ماذا لو رآها الآن؟ ما الذي يمكن قوله؟
يلوح الشارع الكبيرُ ، يتفرع ويتفرع، يصبحُ كسدرة عجوز. جذورها غير متناهية. أغصانها متشعبة. أوراقها صغيرةٌ وكثيفة. صفراء، خضراء..بنية..نضرة..يابسة..على وشكِ اليباس. نظرتهُ كذلك تكبر وتتفرعُ لا يلمحُ طيفها ولا يدركُ الإتجاه. البوصلةُ التي تقودهُ دومًا أخطأته الآن. مشى ومشى حتى شعر بالعطش. دلف إلى أقرب مقهى خطفَ القنينة من الرفِ البارد وفي اللحظةِ التي كان ينظرُ فيها إلى محفظته ليخرج الجُنيه الذي جذبتهُ الزاوية المظلمةُ وأرادت الاحتفاظ به، كانت هي تدفعُ الباب الآخر وتخرجُ منه. لم يلحظها. كان مشغولاً. عطرها الطفيفُ لم يصله. وصلتهُ رائحةُ (الكوراسون) اللذيذة. دفءُ حضورها لم يمسّسه، المكان كان مكتظًا أكثر مما ينبغي. خرج من باب المقهى ومشى دون تفكير علَّ الشرود يدلهُ على الطريق. قرر أن يكون آخر ما يفكرُ به أين يذهب الآن، وأول ما يفكرُ به: لماذا تتسلطُ فتاةٌ مثلها على مُخليته؟ مشى في الزحام الذي كان يخفُ دريجيًا من حوله. هناك أمر لذيذ في المشي المترقب لحدوث أمر استثنائي لا يشعرُ بها إلا المتأملُ الرقيق. الخفةُ التي ترافق مشيتهُ تحرضه على المزيد منه. كأن رجليهِ في رقصةٍ رشيقة وأصابعهُ تحركُ الأوركسترا التي تُعزفُ في الذاكرة. نسيَ اللحاق بها واستمتع بما يفعل. تذكرَ التذكرُ لحظتها: أيها السيد ستجدها لأنك تملك العنوان أصلاَ. عندما نسيَ حقَا، كان طيفها يحوم حوله. تراءى له ظلها الذي لا يوازي ظلهُ في الطول.
كانت هي تفكرُ في الظلالِ المتشابكة. المباني والأشجار والبشر بتفاصيلهم التي تطول مع ميلان الظل. بطريقةٍ ما الظلالُ مفردةٌ أخرى للحياة. تطولُ..تقصر..تولد..تموت..تتشابك وتفترق. اختطفها فجأة من تفكيرها الظلُ الذي بدا طويلاً جدًا مقارنةً ببقية الظلال المتوزعة أمامها. لم تلتفت إلى الوراء ولكنها حاولت أن تتبينَ صاحبه من انعكاس الزجاج في واجهةِ المحلات. في مُخليتها دار (سيناريو) لو أن أحدًا يتبعها لأنه ظنَ أنَ وجودها معهُ مفتاحٌ لكل الأبواب. أنها على سبيل الصدفةِ صَدفةٌ بداخلها درٌ مُتلألئٌ وفاتن. كُلها كُلها تنير كقوس قزح. ستكونُ محظوظةً. ابتسمت وهي تلمحُ خيالاً شُبهَ إليها أنها تعرفه. القلوب حينَ تخفق تحدثُ ضجيجًا عاليًا. وضعت يدها على قلبها لتكتم صوته. فتحت جهازها اختارت أغنية بعشوائية. صدحت أم كلثوم: أغدًا ألقاك..يا خوف فؤادي من غدِ* أخذت تدندنُ معها وتناست الظل والخيال الذي يسرحُ بها.
لمحها فصارت الدُنيا ربيعًا. مِعطفها الشطرنجي كان يخوضُ معاركًا معه. يحركُ خطوته للأمام..تُقدمُ خطوتها هي. لا يَتبعها. تُبعدُ بيدقه خارجَ اللعبة. ظلَ يخسرُ ويخسرُ في كل جولة لهاجسه الذي يَردهُ عنها: ماذا ستقولُ لها؟ أما هي فكانت تفكرُ مئة مرة قبل أن تلتفتَ للوراء. أصبحُ الظلُ قريبًا وطويلاً. وله جاذبيةُ الغريب، أخذت نفسًا عميقًا، عند الإشارة سيكون الظلُ جارًا. ولن تستطيع تفاديه. من ورائهَا كانت أصواته تتعالى في رأسه إلا أن نادى بصوتٍ يعلوهُ ضبابُ الرقة: لو سمحتِ. لم تكن لتسمعه وأم كلثوم تتغنى في أُذنها وتتغنج. قطع الأغنية صوتُ الهاتف الذي يرن. ردت عليه وشرعت في حديث مقتضبٍ ثم ضحكت. ضحكتها الناعمةُ القادمةُ من أمامه قالت له: كشِ ملك. خسارةٌ جديدة حرضته على الاقترب أكثر وموازاتها في السير. التفت إليها وناداها من جديد: لو سمحتِ. علَت نظرتها إليه، سقطَ قلبها وهي تقول: نعم؟ استفاهمها كان ايذانًا للمزيد من الأسئلة. دارتْ الأفكار في رأسِ كليهما. لمَح أنها أجملُ عن قُرب. ذاكرتهَا اتسعتْ لتتذكره. أخبرهَا أولاً أنها تمشي في شارع لا يمشي فيه عادةً العرب. اتسعت نظرتهَا وتسائلت: وإذا؟ قال ببساطة: أنتِ فراشة. الفراشات لا تخاف. اتسعت حدقتها وقطبت حاجبيها: نعم؟. طلاقةُ لسانهِ كانت آخر ما يحتاجه. اعتذر ثم ذكر شيئًا عن أوراق اضافية تحتاجها السفارة. ترافقت خطواتها. الشوارع الطويلة مهدت القصة. كانت الحكايا مختلفة. الضحكةُ التي سمعها من الخلف سمعها عن قرْب، كانت أشبه بصلاة. الصمتُ الذي كان يسودُ ما بينهما كان جولاتِ شطرنج أخرى تدور. ظلَ خاسرًا مستمتعًا بخساراته لأول مرة. وبعد جولاتٍ عديدة أخرى وطويلة، فازَ هو.
رائعة جدًا، أحببتُ كبف نسجت لتجعلنا نمشي خلفهم بترقب كبير 🙂