وأنتِ اكتمالُ القُبَل
يتهامسُ كل ما فيها حروفاً حينَ تستنشقُ عطره، لذلك قررت أن تستخدمَ عطرهُ بديلاً عن الوسائد، وأيامهُما بديلاً عن وسادتهَا الجانبية، وكلماتهُ معجونةً بصوتهِ حتى تكونَ دِثاراً من البرودةِ التي تحاصرُ جسدهَا خلاف النار اللي تتقدُ بينَ أضلعهَا لفرطِ الحبِ والتوّجد.
قبلَ النوم تتزاحمُ الكلماتُ بينَ كفيهَا الصغيرتين، ويستوي عقلها صفحةً بيضاءَ لتنقشَ عليها بضياء عينيهِ ما تشاء. فالنور الذي يشعُ من عيون المحبين مَدعاةٌ للخلود. في الصباحاتِ الهادئة تكونُ الكتابةُ عملاً فاخراً. كقهوةٍ فرنسية حانيّة، وشوكولاتة بلجيكية تذوبُ..وتذوبُ وتذوب. فتحتَ جهازهَا وهي تضعُ كنزتها الزهرية. وجلست لتكتب رسالةً تعرفُ أن لا مجيبَ لها، ولكنهَا قررت أن تكتبَ وتتخيلَ الردَ قادماً لا محالة في زجاجةِ سكَنت البحرْ ورسَت على شطآنِ عينيها. في الحب يصبحُ الخيال الجامحُ فرضَ عَين.
كَتبت:
“صباحُ الخير..أيها النديُّ العاطر..
أحسُ برغبةٍ جامحةٍ بالكاتبة إليكَ في هذا الصباح..
هناك حكاياتٌ مترفة يا سيد الصباحاتِ الأولى..تشبهُ الأزقة القديمة..والتمردَ على سلطةِ المطر والركض أسفله..وأقربُ إلى أعماقهِ من حبل الوريد حتى نحيا به مع نُحب ونرضى. الحكاياتُ التي لا تموت هي تلك التي يشهدُ عليها المطر، لأنه في كل مرةٍ يهطلُ فيها يعيدُ انعاشها ويرويها لتكبر، فيصيرُ هذا الحبُ الشَجر ونماؤه الثَمر فلا يكونُ إلى طيباً ولا يقود إلا لكل طيب.
أفكر مليّاً..أني لا أوّد التورطَ فيك أكثر..ولكن قلبي يصرُ أن تكونَ نصرهُ وافتخاره. ربما حلماً فاخراً يتصل بالأرضِ والسماء. كنظراتك التي تخطفني من نفسي وتُشدني إلى أقصاكَ دون عِتقٍ! أنا مشدودةٌ لأقصاي أعلم. وعِلمي دونَ عِلمكَ شيء لا أستطيعُ احتماله. الكتابةُ إليك تحتاجُ أن أستحضر كل ما فيَّ ليصلَ لكل ما فيك. أنا لا أقبلُ الأنصاف ليس لأني لا أفهم في الحساب فقط، بل لأني مائيةٌ وهوائية! اثنان من الشيء ذاته مقتسمان، فإن زادَ الماء غرقَ الاثنان معاًَ وإن حققاً توازناً نسيباً في مرحلةٍ ما!
أحسُ بأني أسمعُ صوتاً بعيداً..غابراً..عطوفاً وغارقاً في دواماتٍ لا يمكنهُ الخروجُ منها. هل عرفته؟ إنه عبدالحليم.. أكادُ أجزم أنه لم يعش حياةً صاخبةً كتلك التي أضرمها في قلوب العذارى والعاشقين! ومازال يضرمهَا كُلما اشتعل صوتهُ غناءً. أحسُ أنه كان مُعتزلاً هادئاً أشبهَ بغزالٍ مصابٍ في مقتل..كيفَ غنى:
“إني أغرق..أغرق…أغرق” ؟!!
لستُ متأكدةً تماماً..ولكني شبهُ أكيدة أنه كان يغنّي حكايات الشعب..ولم يُغني يوماً على “ليلاه”..!
أنا الغارقة التي لا تجدُ طوقَ نجاتها إلا في اعتناقِ أصابعكْ، وحركاتِ يدكَ الساهية وهي تَرْوي عنكَ ما يَرْوِي. أنا الناظرةُ في خطوطِ يديّ ولا أجد اسمي، بل أجدها كلها تتقاطعُ لتشكلَ اسمك. تلكَ يدي يا سيدي استحالتكَ وصارت نسخةً عنك تفتنني!
كفاني منكَ الحب، ويكفيك مني أني استويتُ أنت!
إني أغرق..
والبردُ يَلسعني..
ومن بعيدٍ مناراتُ..
دفء تضيء..
وأخرى تنادي..
بصوتٍ قديم..
إني أحبكِ..أحبكِ جداً
هذا طوقكِ..
هذي نَجاتك..!
تمت”
وصلها البريدُ –بريدها- فاعتدلت في جلستها بعد أن أعدت كوباً من القهوةِ دافق..يلائمُ صباحَ البحيراتِ والمياه الجارية. والإوز الأبيض يتهادى على السطحِ دونَ اكتراث للريح والبرد.
كتبت:
” وصلتني رسالتكِ يا حبيبتي..
واعلمي أنها قبل أن تصلَ بريدي وصلتْ فيافي قلبي تلك القفار الجافةُ إلا منك، المعشوشبةُ بجمالِ حرفكِ وبديعِ رسمك وقبلَ كل ذلك، رقةَ قلبكِ ودفء يديكِ الساحرتين. كُلما تأملت يا صغيرتي يديّ وتذكرتُ أمامها صغرَ يديكِ ورِقةَ أصابعكِ، أدركتُ أن الزمنَ نهبَ مني الكثير، فلم أجّدْ عليكِ إلا بالقليل! كلُ خسارتي معكِ ربحٌ بائن، وكل رهانٍ معكِ كانَ قدراً جميلاً مقسوماً من كوثرٍ وعسجد. أنا البدوي الذي ملت يداهُ الجروح، لمسةٌ منكِ تحيل يداهُ سهولاً لا قيضَ فيها ولا سَموم.
أنا المتأملُ يا صغيرتي في رحابةِ الكونِ حولي، وضيقِ صدري في نفسي أني لم أصلكِ بعد، وأنتِ أقربُ من الوَتين. تجاوزني الزمنُ وتجاوزتهُ إلا أنني رغمَ عِلمي لم أتجاوزكِ. فأنتِ المستعصيةُ على النسيان، وأنا الفزاعةُ التي تخافُ من ظلِ الفراق!
هل تأملتِ النسيانَ يوماً؟ أرجوك افعلي..!
غنّت ميادة..
“الصبح بيفكرني بيك والشمس بتنور عليك”
هكذا غنت عن النسيان، ولكنها لم تستطع..ولن تَقدره..لأن النسيانُ لا يوهب ولا يُفتعل. النسيانُ فعلٌ بليغ وصوتٌ لا ينقطع وإن وَهِن. هل بإمكاني نسيانك يا فتاة؟ لا أعلمُ ذلك، ولكني أعلمُ أني لا أريدُ أن أنسى..لا أريد أن أركنَ حياةً بأكملها على رفوف النسيان، وأترك الحياة تمضي بدونها. النسيانُ يا حبيبتي وثّاب إننا نعيشُ حياة داخل حياةٍ حينَ لا ننسى..نعيشُ بقلبٍ من الماضي، وعقلٍ في الحاضر ولا يتلقيان إلا في المساءات حينَ تُغني ميادة:
“والليل يرجعني إليك .. حلم ياخذني بين إيديك”
فكيفَ أنساكِ يا صغيرتي وصباحي، مرتوقٌ بخيطِ شوقي لك بمَسائي. وأنتِ سوسنهُ وشجرةُ الفردوسِ في أيامي لا أرويكِ إلا بدمعي، ولا أُدفئكِ إلا بكلماتي؟
أنتِ لستِ المساحات المملوءة في حياتي، بل أنت التي ترسمين خطوط التَماس فيها. فاقطعي ما شئتِ من الخطوط، وقاربي ما شئتِ من الطرق فكل طريقِ لا يؤدي إليكِ ربعٌ خالي. وكل حرفٍ لا يكتبُ لكِ مزقيهِ وارميهِ في اليمِ ولن ألومك، فتلك الأصابعُ التي اندمجت يوماً بأصابعكِ مرجت لتكونَ حوراً عيناً يكتبنكِ اثرَ الشوق، والسُهدِ وحينَ امتلاء محاجري بالدمعِ وفيضَ قلبي بالجوى.
أنتِ انتصارُ نفسي عليّ..
وأنتِ اختزالُ العمرِ فيّ..
وأنت القِبلةُ التي ما ضيّعتها
بوصلتي يوماً..
وأنتِ اكتمالُ
القُبَل..
لا تقولي تمت..فالتمامُ لا يكونُ إلا في انتصافكِ وانتصافك في قلبي اكتمالٌ دائم. “
أرسلتها لها، وفتحت الشباك وراحت تقرأها للريحِ والشجر..والمطر والبحيرة..علَ كل الأشياء حولها تستحيل زواجلاً فيصلهُ منهَا ما يصل الغريبَ عن أهلهِ فجأة!
“ولم أجعلِ الكفَّ الشّمال وسادةً ** فباتَ على كَفّ اليمين مَوَسَّدا
وجرَّدته من ثوبه وأعدته ** بثَوب عناقي كاسياً متَجَرِّدا
وقرّبني حتّى طَربتُ إلى النّوى ** وأورَدني حتّى صَديتُ إلى الصّدى
شَهِدتُ بأن الشهد والمسك ريقه ** وما كنتُ لو لمْ أختبره لأشْهَدا”
هل أنت إنسيٌّ كنحن؟؟ لستُ في رَيْب أنّكِ مختلفة جدا، وأظن رقصات حرفك ِ تؤيّدني، وقد عرفكِ خيل وليل وبيداء وسيف ورمح وقرطاس وقلم؟؟ إنّه الشيطان الذي يسكنك يصيّرك متفرّدة! فمن شيطانك ِلأحتويه ليوم واحد فقط؟؟، أريد أن أزيّن جيد الحروف.. لديّ درٌّ ولكن “الدُّر ما زين حسنه بانعقاد” كحرفك.
هذا القلم يشي بالكثير…
• الأبيات من قصيدة ابن سناء الملك .