لَحَدْ يَدْري..!
في أغلب المجالس التي تدور فيها الأحاديث العامة، تسمعُ كمَاً من “الأحاديث الفجائية”. وهي تلك التي تبدأ غالباً بـ (سمعتوا أو ما دريتوا؟! ) ثم يبدأ المتحدث في السرد القصصي المُبْهر/المُبَّهر مع حبكة درامية معقدة جداً لينتهي بـ (عين ما صلّت عَ النبي أو والله العين حق)! وكم هي مسكينة هذه العين التي ما رَأت وما علِمت!
جدتي الحبيبة تقولُ دائماً عن عيني والدي، أنها كانت كبيرة وواسعة، إلا أنها صغُرت من القراءة الكثيرة. ولأني أحب سماعَ حديثِ جدتي أضحكُ مَعها كلما سمعتُ هذه الحكاية. وجدتي لأمي تقول أن عينيّ أنا كانتا صغيرتين جداً وكبرتا فجأة عندما أصابهَما (كيس دهني) وأنا صغيرة. حينَ أسمعُ جدتَيّ وهما يتحدثان بظرافة عجائز الماضي الجميل وعفويته، أجدُ هوةً عميقةً بين ذلك الزمن الذي كان كلُ شيء فيه مشاعاً وكان الناس أقرب لبعضهم البعض، وكان الكل يعرفُ أخبار الكلُ حتى القصص المختبئةُ بين الأزقة العتيقة والرسائل التي تُتَبادل مع (مرسولي الغرام) خلسة في (القوّايل)! وبينَ أبناء هذا الجيل الذي كُلما شَكّ خيطاً في إبرةً شهق قائلاً: (بس لحد يدري!).
هذه السلبية في التعامل مع الآخر على اعتبار أنه لن يقوم بأي عمل صالح سوى أن (يصيبك بعين) تصيبُ حاجز الإنسانية بهشاشة عُظمى ولا شكَّ أنها تقطعُ الأواصرَ بشكل أو بآخر، لأنَّ الإنسان بطبيعته مخلوقٌ للمشاركة لا للتوّحدِ مع نفسه. وإلا كيف سُخّرت الأرض له من سابعِ سماء؟!
كثيرة هي الأفعالُ حولنا التي نُخرجها من يدنا وتَضعُها سلبيتنا وأخطائنا على عاتق “آخر غائب” غالباً لا يكون له أي دخل بصنعِ أيدينا. وأذكر في هذا السياق الطرفة التي تقول: أن أحدهم كان يذهب كل يوم ليصلي في الكنيسة ويطلب من الله أن يفوز باليناصيب، إلى أن جاء يوم قال له الرب: بني، إذهب واشتر ورقة يانصيب أولاً..! كثيرون منا يتحلون بذات النظرة القاصرة للأمور، معتقدين بذلك أنهم أدّوا ما عليهم من واجبات تاركين الباقي (للتوافيق)، وهذه النظرة لا يمكنهَا أن تبني مجتمعاً متحضراً يعرف ما عليه من واجبات وما له من حقوق لأنه في موضع المنتظرِ دوماً يرتجي أن يحلّ آخر غيرهُ كل أموره.!
الاتكاليةُ تجعلُ من أبناءنا حينَ يعطشون ينادون (الشغّالة) لتحضرَ كوب ماء، ثم حينَ يتَدنى مستواهم الدراسي في المدرسة نقول للكل: (والله عين!) أو (كل مُدرسينهم ما يشرحون كويّس)! أوليسَ الأمر قضاء ، ومُصادفة , وعوامل طبيعية لا أكثر ولا أقل؟ والأجمل حينَ ينجح أحدهم بنتائج مفرّحة ومشرفة نُداري الخبرَ (ومانعّلم) فيختفي الشكرُ للمُعلم، والثناء للطالب. وتتكدسُ السلبية وتقل الانتاجية لأننا لا نبدي إلا السيىء، ولا نخفي إلا الطيّب الذي يقولُ عنه تعالى:{وأما بنعمةِ ربكَ فحدّث}. إن المجتمعَ الذي ينمو بـ”حياةٍ سرية” في أغلب إنتاجيات أفرادهِ على كافة الأصعدة، لا يمكن أن ينمو بشكل طبيعي، ولا يمكنهُ أن يحقق مطالب التنمية لأنهُ لا يدرك إمكاناته ولا يحرص على استدامتِها وتغذيتها بالشكل الصحيح.
إحدى “زميلات العمل” في بريطانيا بدا على وجههَا التعب فبادرتُها سائلة عن هذا الإرهاق، فأجابتني بكل بساطة: (ربما لأنني حامل). أما “الصديقات” هُنا إذا بادرتها بسؤال كهذا تكون طامة كبرى وتبدأ معه سلسلة من التهرّب والإجابة دائماً: (أبد تعبانه شوي!!). وواضح جداً إن الإجابة ليست رداً على السؤال وإنما هي من نوع (خائفة من العين)! إن العقلية التي تعتقد أن (عينَ حسود) ستطرحُ جنيناً لا يمكنُ أن يعوّل عليها مطلقاً في أي شيء. لأنها لن تكون حاضرةً حين يُطلبُ منهَا رأي، وسيكون العالمُ عنهَا غائباً لو تهنّت بما فعلت. لأن الانسان يفرحُ لمن يشاركهُ فرحهُ ويحجمُ عمن يستخدمُ أساليبَ ملتوية معه. نحن بكلّ ما يحوينا من حياة، بكلّ آلية تستقبل المقدَّر لها موجعٌ أن تمرّ أجمل اللحظات بعيداً عن نظام الكَوْن الصحيح، موجعٌ أن تمرّ أجمل اللحظات وأكثرها تلقائية وعفوية ولا نجد أنفسنا متلذذين بالحياة. امحوا تلك الصّورة المضطربة من دواخلكم وضعوا مكانها صورة تشعُّ نضارة.
إن العقليات التي تستوعبُ الحياة في أضيق أشكالها ليس لها أن تربي جيلاً سوياً وقادراً على تحمل نتائج أفعاله مهما بلغت وأقل ما كانت. فالمجتمعاتُ المتحضرة تربي أبناءهَا على الإبداع والنشاط بكافة أشكالهما حتى يصبحَ كلُّ فردٍ متميزاً بما يراهُ دون أن يحكمَ عليهَ الآخرون، فيتنوّع المجتمع وتشتمُ رائحة مختلفة في كل زهرةٍ من أزهاره.
إني هنا لا أقلل من شأن هذه الأمور ولا أقول أنها لا تحصل، ولكني أُنكرُ على الذين لا يفسرون الحياة إلا بها، والأغرب أنهم يبنون حياتهم عليهَا. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا شركاء فاعلين في سلسلة الحياة، لأن البناءَ يُبنى على عقليات تجددُ وتعطي لا تدسُ وتتكِل. لا أستغربُ مطلقاً من كبار السن أن يعولوا على ما هو غير مادي كالحسد والسحر وغيرهَا، ولكني لا أستوعبُ حينَ يأتي ذلك الحديث من مُتعلم عاقل! فما فائدةُ العلمِ إن لم يصور لنا الحياة في أوضحِ تجلياتهَا وأجملها على الاطلاق: أعمالنا وما حصدت أيدينا وما أنتجنا؟
رجاءٌ أخير..
((هالمرّة بس..خل اللي ما يدري يدري))
(إن العقليات التي تستوعبُ الحياة في أضيق أشكالها ليس لها أن تربي جيلاً سوياً وقادراً على تحمل نتائج أفعاله مهما بلغت وأقل ما كانت)
المقال جميل، ويخترق بعمق ثقافةً دارجةً ومهيمنة، إلى حدِّ أن نعتبرها ظاهرة، ومن الموفق جداً ربطكِ ما بين هذه الثقافة وأساليبها العقلية ومعتقداتها، وبين القدرة الإنتاجية والإبداعية لمجتمعاتنا العربية، فالإبداع لا ينمو في مناخ يحفل بالخوف ويهجس بالترصد والترقب من الآخرين، لتتحول التنافسية على العطاء والنجاح في مجتمعات كهذه، إلى تنافسية على الانزواء والكتمان.
نفسياً، يقع الشخص المعتدل في مأزق، بسبب الخلط الشائن بين هذه الظاهرة السلبية وفكرة الخصوصية الفردية، إنما شتان ما بين نتاج الوعي، ونتاج الخوف.
لقد تحولت قدراتنا المجتمعية، وموروثاتنا الاجتماعية إلى أدوات قمع وخنق، وهزيمة للنفس وتغيير فطرتها، وبالتالي فالإصلاح يبدأ من هدم وتخريب الدعائم والأسس الاجتماعية في الأفكار والمعتقدات المهيمنة على الوعي الجمعي للأمة العربية.
(إن العقليات التي تستوعبُ الحياة في أضيق أشكالها ليس لها أن تربي جيلاً سوياً وقادراً على تحمل نتائج أفعاله مهما بلغت وأقل ما كانت)
أختي للاسف هذا جيلنا ,وادعو الله أن نربي أولادنا,على معالي الامور وأن ينظروا للدنيا بأفق واسع ونظرة بعيدة للأمور.
والحق ما قالت به الاعداء,لما تكلم أحد قادة الحرب في أسرائيل ووضح بعض النقاط ساله أحد الحضور الا تخاف أن يسمع العرب هذا الكلام , فرد ضاحكا ان العرب لا يقرؤن, وقد يقول قائل كيف يشتري المواطن العربي كتاب وهو لا يجد ما يسد به رمقه,وجهة نظر !
ولكن لنقول هذا الكلام للأخواننا في الخليج العربي الذين انعم الله عليهم بمال.
هذا الحديق يطول الكلام فيه أنه في تصوري حجر زواية في أغلب ما نعانيه من تصرفات وأفعال نراها حولنا.
ختاما ابدي أعجابي بدونتك وبكتابتك.
بأناملٍ تسرق التركيز من رأسها، والتوازن من قلبها، بأمر يشبه النَّقْر لشدّة وقعه على السَّمْع .
اليوم المقال مخلوق مختلف .. نقلةٌ نوعيّة.. وإبداع يكتسِح الآفاق بحضور وانصباب! ، وكأنّ كلّ ذرّاته عطر مُذاب في عِطْر.
كثيراً ما تقافزت حولي تلك الأفكار السوداء لتقف حاجراً، معترضة لشعاع الآمال والخوف من مسألة البوح، على الرّغم من أنّ بعضها وساوس .
موجع أن تبقى رهيناً لمحرِّكَات خفية لتكون كالدّمى تحت بقعة ضوء.
كتبتُ وحينما أعدتُ القراءة بطريقتي السّريعة التي تستفزّني لخلْق المزيد أضفتْ: من قصيدة ابن سناء الملك
“وما الدّهر إلا من رُواة قصائدي ** إذا قلت شعراً أصبح الدّهر منشداً”
ولا زال المَطَر …
العنوان لم يروق لي أخطأتِ كان المفترض تكوني أكثر صبراً.. لكن لا تحزني فلكلّ عالمٍ هَفْوَة ولكلِّ جَوَاد كَبْوَة ولكلّ صارمٍ نَبْوَة..
صدقتي ’’
فَ الثقه بالله بسيطه لديهم ..
أسلوبك من البدأ شدني لاتم المقآل ..
رآئع عزيزتي .. الورد لعينيكِ ,,
اختلف معك في نقاط واتفق معك في اخرى . اما اننا نسب كل ما يحدث لنا الى العين فهو امر خاطي . ولكن بسبب ظهور فارق كبير جدا بين الطبقات مع العلم انها اصبحت طبقتين اجتماعية فقط . طبقه فاحشة الثراء وطبقة اخرى لا تكاد تجد ما يسد رمقها . اصبح وجود العين حقا .
مقال رائع بارك الله فيك وسدد خطاك