نَصْلٌ مُصَوّب

اقرأ لتعرف

dc4oxjXxi

أخذتُ عهدًا على نفسي منذ زمنٍ بعيد ألا أدخل في جدلٍ مع أحد عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تجنبًا للدخول في مناقشات عقيمة لا هدف لها إلا “الجدل”. بالإضافة إلى أن غالبية الذين يجدون وقتًا للمناقشات الطويلة عبر شبكات التواصل لا يملكون أسس النقاش السليم فكلما بنيت حجة منطقية “قفز” لك إلى موضوع آخر أو على الأقل فسر لك ما تقوله على قدرِ معرفته. إن أغلب الحوارات التي أراها في على (تويتر) مثلاً لا يكون هدفها بناء فكرة، بل نقض فكرة الآخر أيًا كانت فكرته. وعليه يجب أن يكون ناتج أي نقاش أن يكون طرف واحد على صواب وطرف واحد على خطأ. والحقيقة أن صواب فكرة ما، لا يعني خطأ فكرة أخرى. إنها “وجهات نظر”.

ومن طريف ما مرّ عليّ أني كنت أقرأ كتابًا ووضعت اقتباسًا مصورًا منه. فردت عليّ إحدى الفتيات بسؤال: “هل هذا قرآنك؟!” وحتى لا يأخذني الظن إلى مناطق لا تقصدها سألتها مقصدها. فردت: نعم أراك أخذتِ بكل ما جاء في الكتاب وحجبت عينيك واتبعت فكر الكتاب اتباع كلي. الأطرف من ذلك أني عندما دَعوتُ لها أن يزيد الله بصيرتها ويبعدها عن ظنون الناس ومقاصدهم قالت: ولك مثل ذلك وأكثر. إنك لا تنتصر حينما ينسحب طرفُ من نقاش ما معك، فقد يكون انسحب حتى يعطيك مساحة أخرى للتفكير فيما تقول.

وكثيرةٌ الأمثلة التي تمر علينا يوميًا وأكثر.. أن يعطي البعض نفسه الحق في التطاول على نوايا الناس ومقاصدهم، وأن يعطي رأيه بكل صفاقة وسوء تهذيب فقط ليثبت مكانه في العالم. وهذا ليس إلا وليد الجهل. فالجاهل هو الذي يتصرف كيفما اتفق ويقول ما لا يقال دون وزنٍ وضبط للقول أو الفعل.

وينتج عن إعطاء الناس أنفسهم حق التدخل في النوايا نقد لسلوكيات الآخرين والانتقاص من خياراتهم بل ويتجاوز الأمر لخنق حريات الأخرين. فنرى الكثير من مقاطع الفيديو التي تنتشر سواء عن التحرش أو التهكم والتي لم تكن لتصل إلينا لولا أن هناك شخصًا قرر أن يكون مصورًا وناشرًا بدل أن يتدخل ويوقف المهزلة التي أمامه. هناك من يحاول أن يلعب دور البطولة على حساب الآخرين. وهناك من يعتقد أنه البطل الحقيقي خلف كل قصة. الأمر أننا كمجتمع مسؤولون عن كل ذلك لأننا نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يحدث ونقول: “أزمة وتعدي”. الأزمة الحقيقة في مجتمعاتنا هي “أزمة فكرية” والمشاكل الفكرية لا تعالج إلا بالوعي.

كان أحدهم قد حاججني في موضوع “التصوف” وابتدأ بسؤال: “متى اعتنقتي الصوفية؟”، وبغض النظر عن صيغة السؤال أجبت بأنني أقرأ ثم لم يكتفِ بذلك فأخذت أجيب في كل مرة بجواب واحد: اقرأ لتعرف. أقرأ لتعرف.حتى يأس فقال لي: اقرأي أنتِ. إنه لم يستوعب منذ البدء أني فعلت وما زلت أفعل ومستعدة أن أفعل ذلك مرارًا وتكرارًا دون ملل ولكن السؤال الحقيقي هو: متى تفعل أنت ذلك؟

عليك قبل أن تفكر أن تناقش أن تكون تعرف ما تناقش فيه، وليست المعرفة بما قيل لك أو بما درست في المدرسة أو بما وصل لك، بل ما بحثت أنت عنه واقتنعت به أنت واطمأنت له نفسك أنت. وعليك في سبيل الاطمئنان إلى رأيك أن تقرأ الرأي الذي تعتقده ونقيضه فلربما وجدت ما يكون منطقيًا بالنسبة لك في الرأي المخالف. تكوين رأي ما عن فكرة ما لا يأتِ عبر قراءة واحدة واطلاع واحد من وجهة نظرٍ واحدة، إنه ابن التخلص من الكِبر لما تعتقد به أنت وامعان النظر فيما يقوله الآخر المخالف.

ولا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة دون الوعي، الوعي الذي يأتي من السلام الذي تعيشه مع نفسك لتستطيع تقبل الآخرين وتقبل أفكارهم وتقبل ما ينتج عن احتكاكك بهم. إن العالم تطور بالدفع العقلي للأفكار ولولا هذا الدفع الفكري لما كان هناك عالم أول وعالم ثالث.

حربٌ خلف أبواب البيت

KcnXKjdcq

وصلني بالأمس سؤال عبر صفحتي في (الآسك) عن حدثٍ غيّر حياتي. فكرتُ مليًّا ولم أجد حدثًا واحدًا غيّر حياتي إلا أمرًا واحدًا وهو أول قراءة لي في الفلسفة. أخذتني الفلسفة إلى أعماق لم أصلها من قبل وأرتني آفاقًا لم أكن أدرك أنها موجودة. الآن أدرك بعد كل الأفق الذي تكشّف أمامي صغر العالم الذي كنتُ أعيشه ومحدوديته وصغر إمكاناته. ولحسن حظي أن والدي كان إلى جانبي دومًا، يجيب على تساؤلاتي مهما بلغت حدّتها أحيانًا..مهما بدّت غير أليفة ومهما كانت الإجابات قاسيّة حين أربطها بالواقع.

تعلمتُ مع الوقت ألا أسمع إلا صوت العقل فيما يتعلق بالمعلومات التي أتلقاها يوميًا. وألا أكترث بالناقل أو المنقول عنه بقدر ما يهمني فحوى ما أسمع وفحوى ما يدور. تعلمتُ أن لا أثق إلا بما يمر عبر عقلي ولو كان قائله شيخًا يشهق الناس بإسمه أو عالمًا لا يختلف طلبته عليه. تعلمتُ أن سُعار العاطفة اتجاه القضايا التي تمسُ الوطن العربي ليس إلا هباء. وأننا رغم كل ادعاءاتنا المعرفية “الشكلية” لم نتعلم إلا  “الصراخ” في وجهِ بعضنا البعض وتحويل غضبنا على أنفسنا واستخدام أقوال أي حد غيرنا لغسل عار عقولنا.

إن ما نراه اليوم أمامنا من الكم الضخم من الشتائم ومن الكم الهائل من تبادل الاتهامات بين الأحزاب أو الطوائف المختلفة لا يدل إلا على عدم أماننا اتجاه المستقبل لأننا ما زلنا عالقين في آفاتِ الماضي. وأننا رغم القيّم التي حاولنا التجمّل بها في وسائل الإعلام المختلفة وشبكات التواصل الإجتماعي توصلنا إلى “خوائنا” وأننا لسنا سوى أبواق ينفخ فيها رجال الدين وينفخُ فيها الساسة وينفخ فيها كل من شاء دون أن ندرك صوتنا الحقيقي. دون أن يكون للوعيّ منَا محل ودون أن يكون للعقل علينا سُلطة.

حين نتحدث عن القيّم التي تقود المجتمعات كالتعايش والسلم والعدل والمساواة علينا أن ندرك أنها لا تقوم بمهرجانات أو حفلات خيرية أو حملاتٍ لجمع التبرعات أو شعارات نرددها أو رموزًا نفعّلها بين الحين والآخر. بل على هذه القيم أن تتجاوز مشاعرنا إلى عقولنا وتترجم على شكل سياسات وأنظمة حقيقية وواعية وصلبة حتى لا يتم التلاعب بها وتطويعها من قبل أي أحد.

وعلى كل شخص منا أن يسأل نفسه أولاً قبل أن يرسل “برودكاستًا” طائفيًا، أو قبل أن يرد ليشتم فلانًا أو قبل أن “يرتوت” لشيخه المفضل أن يفكر مليًّا في أثر “كبسة الزِر” التي قد تجعله سفيها لا يدرك أو ساخطًا لا يدري ما الذي يفعله. إنها لحظة واحدة تحددُ وعيّك اتجاه الدُنيا فلا تتعجل. العجلة تفسدُ كل شيء. اندفاعنا الشعوري اتجاه ما يمتُ لما نعتقد أنه “دفاع عن الحق” قد يتحول إلى أداة تشويه لا غير. قد تكون نيتك سلمية أحيانًا ولكن النوايا وحدها لا تكفي لتبنيَ محيطًا تأمن فيه على أبنائك في المستقبل. علينا أن نكف عقولنا عن التوافه التي تنحدرُ بإنسانيتنا. علينا أن لا نهدر المزيد من كرامتنا التي حبانا الله إياه وضيعناها نحن في الكثير من المهاتراتِ العنصرية الظالمة المقيتةِ التي تنبذُ الآخر ولا تقربنا من أنفسنا حتى أشعلنا حروبًا خلف أبواب البيت الواحد!

يقول الدكتور جاسم سلطان في كتابه: (التراث واشكالياته الكُبرى) عن معوقات التطور الحضاري:

“الإيمان قضية تزيد حساسية النفس الواعية بمتطلبات العمل وتلك مفارقة لا يدركها القوم حتى بعد أن تكشفت حقائق في عصرنا الحاضر. فالخطاب الديني ما زال يبشر بالحل الإيماني عازلاً له عن سياق العمل المتعلق. بينما الحل يكمن في العمل على بصيرة وليس مجرد العمل العاطفي، وهذه البصيرة تشمل الوعي بالدين والوعي بالدنيا التي يعمل فيها الدين وهو التقاء العقل الذكي بالقلب النقي بالواقع الحي في تفاعل مثمر”

أنت مثالي ومنهك

Perfection

تصحو صباحًا، الأجواء الصباحية تناسبك وتحرضك على احتساء القهوة وأنت تتصفحُ عن طريق (آيبادك) الصحف المختلفة. تصور فنجانك الذي اقتنيته من آخر سفرة لك وترسلها عبر (انستقرام) وتكتب لمتابعيك جملة صباحية مميزة تحثهم على النشاط والعمل. تدخل (تويتر) وتعلق على إحدى الأخبار التي شدّتك من بين ما تصفحته من أخبار. تستعدُ للذهاب للعمل، ترتدي ملابسك بسرور تدخل سيارتك وتصور في (سناب شات) فيديو تخبر فيه متابعيك أنك متجه للعمل مع ابتسامة متفائلة. يتكررُ تواجدك في شبكات التواصل الاجتماعي وقت العمل وأثناء الغداء ومع أولادك وحتى تضع رأسك على وسادتك في المساء. أنت الآن في صورتك التي رسمتها: رجل بيت ورجل أعمال ورب أسرة ومثقف ومتحدث بإمكانك مواكبة كل شيء بقدرٍ متساوٍ من الاهتمام والدقة. تبدو هذه الحياة للآخرين مثالية ورائعة ويتمنى الآخرون عيش يومٍ واحد من حياتك. هل فكرت قليلاً: هل أنا مثالي، هل حقًا حياتي مثالية؟

الأغلبُ يحاول جاهدًا اثبات مثاليته ويمكن تتبع ذلك من خلال الكم الهائل مما نستقبله يوميًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وما إن تقابل أحدهم حتى تكتشف أن حياته ليست كما كانت تبدو لك. قد تشعرُ بخيبة ولكن الحقيقة تكمن هنا: الكمال صفةٌ ربانية. في عالم اليوم بات (التجمّل) أمام الآخرين هدفًا نسعى إليه مهما كلفنا ماديًا ومعنويًا.

وقد تصل المثالية المُدعاة لحد المرض الذي لا يلاحظه من يعاني منه فترى الشخص (المثالي) لا يقبل الانتقادات مثلاً ويفترض أنها انتقادات لشخصه لا لسلوكياته. تحاول ارضاءهُ بشتى الطرق وتفشل لأنه لا يستجيب إلا لما يراه مناسبًا. وقد يصبح عدائيًا اتجاه آراء الآخرين التي لا تتوافق مع أهواءه. وهناك الكثير من العلامات الأخرى التي يتحدث عنها أخصائيو الطب النفسي عن أعراض المثالية. توقف الآن وفكر مليًّا: هل من الممكن أن تكون مصابًا بهوس المثالية؟ في الحقيقة لن تعرف ما دمتُ تنفي كل شيء عنك. بل أكثر من ذلك أنك لا تتجرأ على نقد نفسك وتغيير آرائك حولها وحول الآخرين وحول الحياة ذاتها. تعتقد أنك الأفضل وأنك لا تخسر. الحقيقة أنك تخسر، تخسرُ نفسك لأنك تعكر صفو روحك بتحميلها ما لا تطيق.

تسلبنا المثالية المُدعاة كثيرًا من التقرّب من ذواتنا. فنتكبر على البسيط الذي قد يسعدنا للمعقد الذي قد يشقينا. ونحرم أنفسنا من جمال أفعالنا العفوية التي بإمكانها أن تجعل منا أشخاصًا أفضل وندخل في صراعات تجعلنا أشخاصًا أسوأ دون أن ندري. نكبتُ مشاعرنا الحقيقة حنى نفقد التوازن تمامًا ونلوذ آخر الليل بالدموع علها تواسينا.

تسلبنا المثالية المُدعاة من الآخرين الذي نعيش معهم لأننا ولو لم ننتقد من حولنا بصوتٍ عالٍ فإننا نفعل ذلك في داخلنا. نلوذ بالصمت أو التجهم مما يعطي الآخرين انطباعًا بأننا لا نهتم أو أن الكِبر تمكنَ منا. نصدُ من لا يتوافق معنا في الآراء ونقرب الناس منا بحسب أهوائنا الوقتية حتى ينتهي بنا المطاف وحيدين دون رفقةٍ حقيقة أو أحباءَ يشاركوننا زهو الحياة.

تسلبنا المثالية من الحياة التي تفتح أبوابها لنا ببساطتها وتنافسيتها. لا نقبل التدرج بل نريد الطيران نحو القمة ولو كانت أجنحتنا ناقصة النمو. تسلبنا التمتعُ باللحظة التي ينبغي لنا أن نختزلها في عقلنا لتبقى ذاكرتنا مليئة باللحظات المبهرة. تسلبنا متعة الاكتشاف وروعة التعرف على إمكانات الحياة التي لا يمكن أبدًا أن تتكشف لنا ما دمنا نأخذ الحياة على عُجالة.

كُلنا نسعى إلى الكمال. وكلنا نريدُ أن نكون أفضل مما نحنُ عليه. وهذه مشاعرٌ طبيعية لأننا كبشر مجبولون على السعي إلى الجديد. وفي سعينا هذا هناك الأمل وهناك الخيبة وهناك النجاح وهناك الفشل وهناك كل المشاعر التي تنطوي عليها التجارب الإنسانية. ولكن لا تذهب إلى أبعد من ذلك. لا تدعي الكمال وتعمل وفقًا لذلك لأنك لن تلبث حتى تجد نفسك مُدمرًا من الداخل ومن الخارج. المهمُ في إنسانيتنا هو أن نعيش حياتنا ولحظاتنا بشكل حقيقي، بحضور حقيقي لمشاعرنا وذواتنا. ولنتذكر دومًا: أن الأشياء الجميلة ليست دومًا مثالية، ما يجعلها كذلك مشاعرنا فيها.

المنشور الاخير