حِكَايَة

كل الهناءِ كذب

1-fear-katerina-apostolakou

لم يكن لديّ الكثير. كانت لدي يدٌ تمتدُ وأخرى تتراجع وتختفي تحت كثيف أوجاعي. كان صاحب البقالة الذي ينظرُ بنصف عينيه المفقوءة في عينّي مباشرة، يساومني على نظري. في كل مرة أطلبُ منه أشياء لا أتمكن من دفعِ ثمنها. الفاتورة تقتطعُ من عُمري. لكنها الحياة التي أرادت مني أن لا أستطيع دفع ثمن احتياجاتي وزوجتي البسيطة؛ الخبز على سبيل الضرورة. كان الكربُ أن أحتاجَ ويدّي عزيزة.

في رحلة عنائي اليومية أنتقل في آخر الليل حتى أصلَ بستان فالح بيك مع شروق الشمس. الليّرات القليلة التي معي لا تمكنني إلا من شراء الجزر. ذلك الذي لا يأكله أحد. ولكنه قوت يسير. يسدُ ولا يكفي. رثة الحياة حين تخلو من المباهج. وأنا ليس معي إلا فتنةُ شام زوجتي. ولكن الفتنة لا تُطعمنا ولا تسقينا ولا الحب يفعل ذلك. كل الكلامِ سهلٌ وكل الهناءِ كذب حين تنتفي القدرةُ على تحقيق الكفاف. أعودُ إلى المدينة والنصَب يتساقطُ  من جبيني. وبين أطرافي نهاياتُ حياة. أتقوّم بالماء السبيل الذي نَذرهُ شيخ المسجد الجليل لعابريّ السبيل. ولم يتجرأ أحدٌ من أبناءه من بعده على قطعه. أبيع ما تيّسر من الجزر. ليس كثيرًا. معظمهُ عَفنٌ غيرُ صالح، وحين تُزال عنه الأطراف العفنة يبقى القليل. القليل الذي يستخسرُ الناس دفع أي ثمنٍ فيه. ولكن فالح بيك يرفض إعطائي أفضل منه. يقول صارخًا في وجهِ عازتي: حِلْ عَنّي.

كان بمقدور الحياة أن تظل هكذا. أعني أن لا تسوء بما لا يمكنني تحمّله. أنا لا أريد أن أتصالح معها. أنا أريدها أن تتركني أعيش دون فاقةٍ جارحة أكثر. هيئتي؛ داخلاً الدنيا عاريًا، خارجًا منها بكسوةٍ بالية، لن أدفع ثمنها، سيتصّدق علي أحدٌ بها. أو ستبيع شآم إن متُ قبلها و-سأفعل- شيئًا وحيدًا تمكله كخاتم الزواج الرخيص الذي أهديتها إياه ربما.

مرت الأيام عجافًا وأبت إلا أن تمر بكل ما أوتيت من عُسر. هكذا، صرنا فجأة في حربٍ مباغتة. أطفالٌ يموتون ونسوةٌ تتقطعُ وجوههن لكثرة النحيب، ورجالٌ لفرط العجز يرحلون. أقول عن الرجال فقط أنهم يرحلون. رحيل الرجال انكسار أعظم. ليس في الحياة أقسى على رجل من الرحيل المباغت. الرحيل تذكرة الرجل لعالم يفقد فيه رغبته في الحياة تدريجيًا. أبيت فكرة الرحيل. تحت القصفِ كنت أحتضن شام بكل قوة والعجز رفيقي، أقول لها كل يوم:عليكِ أن ترحلي مع النسوّة غدًا. غدًا عليكِ الذهباب وسأتبعك عندما أستطيع. في هذا البلد لديّ هذا البيت عليّ أن أدافع عنه. إذا كنتِ لدي، على البيت أن يكون لديّ. لا وجود لنا سويًا دون بيت يا شام. تأبى شام وأنا أموت ونهدها يقاومني. أنا أحاول مقاومة الحياة خارج هذا الحضن. سوّفت إلى أن زادت خفقاتُ قلبها بما لا تحتمل. قَبِلت تحت وقعِ قُبلاتي المستجيرةِ بنبضاتها أن ترحل ليبقى نبضها حيًا. قبِلَت. فبدأت حبات الجزر تموت في مخيلتي، والزمن يذوبُ في فمي. كان على الأشياء أن تموت لتبقى شام.

رحلت شام وبقيت أنا ووعدي الواهن بأن أتبعها عندما أستطيع. الرحيل ليس للرجال. دموعها كانت أشد من القتل. أشد من الخرابِ وأصواتِ المدافع. تعلمتُ أن لا شيء يموت بعد أن تموت الروح. الحياة واحدة بعد موت الروح. خالية من أي مَقام. شام مقام الصبا. رحلت وبقيت أنا ووعدي. لن أرحل. تتجبّرُ الحياة وتظلُ واقفة وتنظرُ إليك بجلافة. تزجرك: ماذا تنتظر؟!

تبددت الحياةُ شيئًا فشيئًا تحت الأنقاض. لم يعد للعويل أثر. ماتت الأصوات. لم تتبدد الوحشة. كنت عند ماء السبيل أحاول أن أشرب. لم يبقى سواه حولنا. الجفاف كان يستفشي. القنينة لم تمتلئ. حظي العاثرُ ملأها. واضعًا يدي على رأسي كفعل طبيعي احتياطيّ. رأيتُ دخانًا كثيفًا من اتجاه حييّ. سيموت. كنتُ أقول في ذلك في سرّي ثم علا صوتي وطار إلى السماء الخاوية. سيموت الحي. لن يبقى الحي. بيتي هناك. أنا هُزمت. بيتي الذي كان، بيتي الذي صار ركامًا الآن. رأيتهُ في رمقه الأخير من الإنهيار وبكيتُ لا لأنه ينهار بل لأن العزّة التي كانت لديّ هُدمت. ماذا أنا الآن؟ أدخيلٌ على الحياة بشكل ملعونٍ هكذا؟ أم أنني كنتُ أحتاجُ لئلا أكون؟ يا الله. بددّني. بددّني كما لو لم أكن. أنا تعيس وإيماني رخوٌ ولم يعد هناك متسعٌ لي. أنا لا بيت لي ولا شام! أنا لا شيء سوا هواءٍ يمرُ على أحدهم ولا يستنشقهُ.

كنتُ أتآكل. وجسدي يضمحِل. لم يعدُ لي شيءٌ هنا وما زلت باقيًا. مرت الشهور وأنا لا شيء إلا خيالُ إنسان يتنقلُ على قفا الحياةِ دون أن يدري كيف ولماذا. أتى صوتُ شام عبر هاتف أحدهم يتوسلُ الوعد: أرجوك تعال إليّ. قلتُ هزيلًا: الرجال لا يرحلون. قالت من حُزن: كن أي شيءٍ وتعال إليّ.

أنا الأيُّ شيءٍ حملوني في وسط الجوع وانتفاء الحياةِ فيّ سيارة نقل كبيرة، مدفونًا تحت أكوامٍ من التفاح. لا أذكرُ كيف كان طعمُ التفاحِ أصلًا. تذوقتهُ في يوم عرسي. ولا أذكرُه بعد ذلك. الفاقةُ تتذكرني. كنتُ محجوزًا هكذا لأهرّب من على الحدود دون أن يراني أحد. كنتُ ميتًا مدفونًا تحت أكوامٍ من التفاح. ليس هذا الموت الذي أعرف أو سمعتُ عنه، أو رأيته بعينيّ. أنا الحيّ الميت تسكرني رائحة التفاح وبطني تتضور جوعًا وأنا لا أسرق. طرقتُ الحديد من خلفي ليسمعني السائق. لم يسمعني حتمًا. إنه لا يرد. أقول لنفسي: الرجل لا يسرق. خفقة في بطني؛ لو سرقتُ ستقطعُ يدي؟ كم يدًا ستقطع في بلادي؟ أقلّها أياديّ الذين هدموا منزلي. يديّ لا. نمتُ وصحوتُ على الرائحة تخترقُ أنفي. لا يمكنني تقدير الزمن الفعلي لوضعي هذا ولا أعرف متى سنصل أو أين نحن. فكرت، ماذا لو أكلت تفاحةً واحدة ثم استأذنت السائق فيما بعد فيها. قد يكون استإذانًا متأخرًا ولكنه مجدٍ. حاولت أن أستخرج واحدة من حدودِ الأخشاب المهترئة فوقي ولم أفلح. قوتي لا تسعفني، وعقلي يردد: سيقطعون يدك.

وصلنَا، هكذا اعتقدت. الآن ألتقي شام. صحوت والماء يغمرني وجدوني غائبًا عن الوعي وحولي قيءٌ لا أتذكره. رأيتُ ووجوههم تحاول مساعدتي لأنهض كنتُ ضعيفًا جدًا ولم يكن لديهم الوقت الكافي للإعتناء بي. انزوى الرجلان بعيدًا عني وتوشوشا صرخت بما تبقى لي من صوت: لم أسرق شيئًا. لا تفعلا شيئًا بي أرجوكما. الخوفُ عاصفةٌ هوجاءُ لا  تهدأ. جاء أحدهما وقال لي: اعذرنا، لا نستطيع أن نأخذك إلى أبعد من هذه النقطة. عليك العبور وحدك. لا نستطيع تحمل مسؤوليتك. صرخت: ولكنّي لم أسرق شيئًا. نظر إليّ ثم تجهّم وقال: أنت مجنون! خذّ هذه الكيس واذهب من هذا الاتجاه ستجدُ أحدًا يقلك إلى هناك، لن تكون وحيدًا. الهاربون أكثر من نبات صحراء. نظرت حولي: كان المكان صحراء قاحلة. أخبرته أني لا أستطيع الذهاب وحدي. ألقى بالكيس إلى جانبي مضى وقفز إلى السيارة وانطلقا دوني ودون أن يلتفتّا إليّ.

كانت الصحراء حقيقية. لا شيء سوى الفراغ أمامي والسراب، وأنا ملقىً على التربة الصخرية أحاول الوصول إلى الكيس. أشتمُّ رائحة طعام أخيرًا. باغتني الوهَن وبصعوبة شربت الماء والأصعبُ كان أن آكل بعد صيامٍ طويل جدًا. الجوع كان يملأ بطني. فكرت في النور الذي يتنشرُ في بصري..في الخير الذي تركاهُ لي.  كان خيرًا في كل أحواله. أنا لم أدرك خيرًا قط إلا في شام. مضى وقت، لم أشعر به إلا حينَ هبت علي نسمة يتيمة. كان الوهن غادرني من أطرافي. مشيت متجهًا إلى الجهة التي دلوني عليها. لم يكن أمامي شيء إلا اتساع موحّش. الدُنيا تميلُ إلى المغيب. كل ما كان لديّ لم يكن يقينًا. الرجال يرحلون وينكسرون ويمضون إلى أقدراهم بلا حول ولا قوة. وشام تنتظرني. وفي الحياةِ ربما متسعٌ لحلمٍ جديد.

الانتفاخ الذي لا أطيق..!

لم أكنْ يوماً ككل الأطفال. كما أني لم أكن مميزاً لتلك الدرجةِ التي تجعلني مُلفتًا. كنتُ طفلاً مرتباً جداً أكرهُ أي زوائد غير طبيعة. كانت معركتي الصباحية مع أمي هي طريقة تصفيف شعري. كنتُ أحبهُ أن يكونَ مستقيماً وكانت تفضلُ أن تكون غرتهُ جانبية، لم أكن أنانياً فقد كنتُ أسعدها بكلمة: حاضر. كانت تبتهجُ وكنتُ أبتسم ابتسامة الطفلِ البرئ وأنا أرتبهُ بالمشطِ المتساوي الأطرافِ تماماً على جبهتي العريضة. وفي كل مرة بعد أن أنتهي من تصفيف غرتي إلى الأمام أفتح حقيبتي وأتأكد من أن أمي لم تعث فساداً فيها لأني أحبُ ترتيب الكتبِ فيها بناءً على حجمهَا الأطول فالأقل طولاً فالأقصر. بعد أن أتأكد من ذلك تهدأُ نفسي، أسندُ رأسي على طرف الكرسي ويحلقُ خيالي بعيداً حتى نصل إلى المدرسة!

هل كنتُ أحبُ المدرسة؟ لا أدري! ولكني أعرفُ أني لم أكن أكرهها حتى أني لم أكن لأغيب إلا لظرفٍ طارئ بعد توسلاتِ أمي ووعدها لي بأي شيء يخطرُ في بالها. فقد كنتُ مسالماً جداً، ولذلك كانت أمي تستغلُ ذلك وتعدني بأشياء لا أفعلها أصلاً. ولكني كنتُ أقسمُ لها بأي شيء تريدهُ حتى أتغيّب عن المدرسة في اليوم الذي يكون فيه لدينا احتفال. ولأن دموعي كانت تفرُ مني بلا توقف وأنا طفلٌ لا أبكي كثيراً كانت أمي ترأفُ بحالي وتتركني وحيداً بعدَ أن تسمعني موالها الدائم: “إلى متى يا ابني تنعزلُ عن هذه المناسبات السعيدة. متى تكبرُ ويذهبُ عنك هذا الخوف السخيف! إنها مجردُ “نايلون” منفوخ لا أكثر!” تحوقلُ وأسمعها من بعيدٍ تناشدُ أبي أن يأخذني إلى طبيب. ويكررُ أبي على مسامعها موالهُ الشهير أيضاً: يكبر ويعَقل!

أمي اجتماعيةٌ بطبعها وتعشقُ المناسبات، لذلك كانت تصر على أن نذهب لكل الحفلات التي نُدعى لهَا. كانت سيرةُ الحفلاتِ تربكني، ويوم أي حفلةٍ موعدٌ مع معركة لا تتحملها معدتي الصغيرة ولا رأسي الصغير. كنتُ أعاني وأستفرغُ كثيراً وأتلوّى على سريري من الصداع إلا أن أمي لم تتحمل هذا الوضعَ كثيراً. فصارت تجبرني على الذهاب معها ومع اخوتي لأي حفلٍ تقيمهُ صديقاتها لأبنائهن. وكم كنتُ أكرههن وأكرهُ أبنائهن!

في أي مناسبة كُنت أنسحبُ رويداً رويداً وأنا أضعُ يديّ على أذنيّ وأتسلل بعيداً كمحاربٍ مخذول إلى مكان فسيح حتى أهدأ. ثم أنخرط في بكاءٍ حادٍ لأني أخافُ شيئاً “سخيفاً” كما تقولُ أمي. ولكن هذا الشيء يحيلُ حياتي إلى مأساةٍ كثيراً. وبعضُ المآسي لا يمكنُ نسيانهَا حتى وإن تم التغاضي عنها برهةً من الزمن. إنها تقبعُ هناك في آخر رفٍ للذكريات يطالهَا الغبارُ إلا أن أي نفضٍ له يعيدها سيرتها الأولى!

كَبرتُ وأنا أكرهُ الاحتفالات. والجيدُ أننا حينَ نكبرُ لا يكونُ في حفلاتنا كرجالٍ أي بالونات! والجيّدُ أنني لا أذهبُ لأي مكانٍ تتواجدُ فيه أيُّ بالونات. عشتُ زمناً سعيداً برجولتي التي لا يهزها شيء سخيف. وتزوجتُ وكان أول ما قلتهُ لزوجتي أمل: سأكونُ لكِ كل شيء ولكِ ما تريدينَ. واعذريني في الغياب ولا تخافي منهُ لأنني منكِ فسأعودُ دوماً ودوماً. قلتُ لأمل: أكرهُ البالونات، أكرهُها وأكرهُ أي شيءٍ منتفخ. حتى بطنَ  أمي الحُبلى بأخوتي كنتُ أكرهه. قالت: ولكنَ بطني سيحملُ طفلنَا! أجبتُ: نعم. ولكني لا أريدُ أن أراكِ منتفخةَ البطن. انصدمت أمل لهذه الجرأة مني. ولكني لم أكن لأغشها في أكثر وقتٍ ستحتاجني فيه. حينَ حبلت أمل للمرة أولى وبدأَ بطنها يستديرُ أمامها راودني الصداعُ ذاته وكنتُ أسيراً للأدويةِ التي لم تكن لتفلحَ مع ألم البطن! كنتُ أتحاشى النظرَ إليها وأحاولُ أن أكون سويّاً. إلا أنني لم أفلح. شهرٌ مرّ وأمل تبتعدُ عني وأنا لا أحاولُ الاقتراب. الاقترابُ مع الخوفِ جريمةٌ لا تغتفر. الاقترابُ مع الخوفِ يحيلُ الحياةَ إلى احتمالات أقربها البعد. رأيتُ أمل ترتبُ حقيبةً، عرفتُ حينها أن الأمل قد غادرَ قلبها! فقررت انقاذي مما أنا فيه مشفقةً على وزني الذي يذهبُ مع كل استفراغ. مع كلِ وجبةٍ أمتنعُ عنها. مع كلِ قربٍ تشاؤهِ هي ولا أقدرُ عليه أنا!

قلتُ لها قبلَ أن تُغادر تلك الليلة: سنكونُ عاشقين. حتى موعد الولادة ثم لن اغادرك ولا طفلنا!. ابتسمت وسألتني: للمرة الأخيرة. أريدُ أن أعرفَ لماذا حتى أعود!

أطرقتُ بخجلِ طفلٍ يعرفُ أخطاءه وهو يرتكبها: كانت تلك الحفلة أسوء الحفلات. أجبرتني أمي على المكوثِ بجانبها تلك الليلة. أصرت أم أحمد أن تحتفلَ بيّ أيضاً، وضعانا في دائرة وبدأوا المشي حولنا وهم يحملون بالوناتٍ كثيرة كانت تحتك ببعضها البعض وتصدرُ أصواتاً تخترقُ أذني وضعتُ يدي على أذني في محاولةٍ لتلافي هذا الأصوات إلا أنها أصبحت أعنف بدأتُ في البكاء ولم ينتبه لي أحد، ثم فجأة سمعتُ انفجاراتٍ كثيرة وأشياء بدأت تتساقطُ على جسدي. بدأتُ أصرخُ كالمجنون، والأطفالُ يضحكون والنسوة يتسائلون! كنتُ وحيداً خائفاً معزولاً في سوادٍ عظيم وصريرُ الأشياء حولي مؤلم ولا أحد يستجيبُ لنداءاتي المتكررة. صحوتُ في اليوم التالي في مكانٍ أبيض وأبي يرددُ على مسامعِ أمي: سيكبرُ ويعقل. وأمي صامتةٌ سمّرت عينيها عليّ حتى وأنا أفيق! حاولت أمي مراراً بعدها أن تعيدني إلى الطبيعة ولكنها لم تستطع، صارت تجبرني على الذهاب وكنت أستجيب ولكنها لم تعد تبحثُ عني! الفقدُ أن تفقد شيئاً من روحك لا تستطيعُ استعادته. ولا تستطيعُ أن تردمَ مكانه. الفقدُ تلك هو العلامةُ الفارقةُ بين الأفراد وبين القلوب.

بعضُ الخوفِ يأبى أن يغادرنا. إنهُ يكبرُ معنا، لا نستطيعُ الاصطدامَ بهِ ولا نستطيعُ العبورَ فوقهَ. ابتسمت لي أمل أربع مراتٍ بعدها على باب المنزل وفي كل مرة كانت تتركُ لي شيئاً منها وبعضَ اليأس. لم تنسَ أمل ما أخاف ولكنها اعتادت عليه لأني وعدتها أن أكون لها ما تريد. لأنها حسبتني طفلاً من أطفالها لأنها أحبتني بكلِ خيباتي الصغيرة وأحببتها بكلُ ما فيها حتى ابتسامتها اليائسة وهي تغادرُ إلى بيت أمها مع كلِ حمل، مع كلِ مرة يطالبُ فيها الأطفالُ ببالوناتٍ وتقول لهم هي: إن البالونات سيئة، تأخذُ الأكسجين من الأرض!

خاتم

هناك ساعاتٌ يقتربُ فيها الإنسانُ من المَوت ثم ينتقلُ فجأة في دوامةٍ شعورية متوترة وغير متناسقة من المشاعر ثم يعودُ مرة أخرى إلى الإحساس بالحياة بمشاعر لم تستوِ بعد. هكذا أنا، أتوهُ كلما هاجمتني حقيقةُ بُعدك. والحقيقةُ التي تؤلم جَلدٌ للنفس. أتدارى أنا التي أوازي رقة الغَسق بصلابةٍ انتميتُ لها بغةً وناسبتني. أتمادى كُلمَا أحسستُ بقربك وأتلمسُ طريقي في عينيك وأسلكُ من خلالِ قلبك. قلبك الذي أحفظه. قلبكَ الذي أنتمي إليه. قلبكَ الذي يُحبني ولا يقدرُ قُربي.

للحبِ سطوتهُ التي لا يمكنُ مُقاومتها، وكل محاولة إما أن تبوء بالفشل وإما أن تكسر فيك ضلعاً. وأضعلي شاخت في حبك وما زالت تنحني حتى تقاومُ الكسر. أحبكَ وأعرفُ أني أعيشُ مجازفةً كبيرةً. وبين عقلي وقلبي مناوشاتٌ ينتهي أغلبها إلى المصالحةِ فلا يسعني إلا أن أحبكَ أكثر. أجالسُ نفسي في غرفتي حيث لا أحد سواي وأحلامي معك. تقتربُ مني وينهالُ عليّ عطرك وأغيبُ فيه. منكَ العطرُ يستحيلُ حياةً أخرى. معكَ استغنيتُ عن عطوراتي واستبدلتها بعطرك حتى تكونَ بينَي فلا أحسَ بهذا البُعدِ الذي يقتصُ مني. عطرك العالقُ بين رموشي مشكلتهُ أني أشتمّك، وأراك ولا أستطيعُ ضمّك إليّ.

صورتك التي أحبها أمامي وأنا أتأمل علبةُ المجوهراتِ التي لا قيمةَ لها بدونك، لأنك أنت البريقُ في عينيّ. هذهِ الأقراطُ زينتهَا أنها استمعت إليك. وهذي الخواتمُ كالهدايا لأنها لامست أناملك قبل أناملي. والأسوار ما كانت لتزيّن معصمي إلا وأنت تُلبسنيها. أما القلاداتُ فأنت تعرفُ أني ما كنتُ لأطيقهَا لأني أحسها قيداً وثيقاً لا أقدره. كيف هي زينتي اليوم يا حبيبي؟ صوتك لا يصلني. صوتي مبحوح. يختفي البريق، أقلبُ الصورة، أغلقُ العُلبة وأنت غائبٌ. والغيابُ ليلٌ طويلٌ وحيد.

إنك قَادر. تأتي الغيابَ وأنت تعرفُ جبروته. تأتيه متألماً خائفاً عليّ ثم لا تأتيني. تطلُّ عليَّ من شرفاتِ الحنين وأنا أزرعُ الصبرَ حتى أقطفهُ معك إلا أنك تأبى إلا النظر وتكتفي به. الكفافُ منكَ يكفيني حتى وأنا أطمعُ في داخلي بالمزيد منك والمزيد. لا لأني لا أقنعُ ولكنكَ معي بينَ الحيانا وعطركَ ينسابُ بانثنائي وخاتمٌ في اصبعي يقولُ أني نذرتُ نفسي لك.

هذا الخاتمُ الذي لا أخلعهُ يجعلني أشعرُ بالخجل لأن الكل يحسبُ أنك معي وأنا أعلمُ يقيناً أني لم أصبح بعدُ أماً لأولادك لأنك ما زلت تتصابى عليّ. وأنا أمٌ رؤوم أتغاضى بدافعِ الحب، وأحبُ بدافعِ الإعجاب أن لي ملاكاً فريداً يدهشني كلَ حين. فكيفَ لك أن لا تعطيهِ روحهُ وأنت روحه؟ لا أحبُ أن أُسْأل: هل ما زالَ في القرب؟! لأن ما ينظر إليه الآخرون غير ما أراهُ أنا. أنا أراكَ بعينِ قلبي، وقلبي يقولُ أنك باق. وهم يرونَ أنك راحلٌ لا يدرونَ أني رَاحلتُك فأنّى تروح!

أنك قادر. أنا أشفِقُ عَلَى نفْسي في غيَابك لأَني أُحسُك أَقرب من النَفْسِ والنَفَس. وأنت تمعنُ في الغياب. تطالهُ يديكَ كما تنالُ رضايَّ عليك مع كلِ اطلالة! وتُسرف. يُضنيكَ الغيابُ إلا أنك تكتفي برؤية القمر لتراني فيه وتكتفي. أشفقُ على نفسي لأنك أكثرُ مني فيّ. بَيني وبينك أكثرُ مما بيني وبينَ نفسي. أشفق على قلبي لأنك تقْلبهُ ثم تُقبِلهُ فلا تكونَ إلا قِبلتهُ وأقبَل ذلك وأحبك! إنّي أشتاق، وهذا الشوقُ يؤلمني. وأحسُ بالوهنِ كوني أحبك وأنَ البعدُ بيننا أكثرُ من القرب. أوّدُ أن أسحقَ المسافاتِ بيننا ولكنهَا تسحقني. وأنت لا تمدُ يديكَ لتساعدني.

هذه الوحدةٌ أليمةٌ يا سندي. وأشدُّ أنواع الوحدةِ ألماً تلكَ التي تتكونُ في داخلك متأرجحةً بينَ الوجودِ وعدمه. أنْ تكونَ موجوداً غائباً وغائباً موجوداً. أنا وهذا الخاتمُ بيننا نذرٌ طويل. نذرٌ واحدٌ طويلٌ بلا فواصل ولا نقط. نذرٌ بنَفَسٍ واحدٍ وصوتٍ واحدٍ عيناهُ مصوبتانِ في عينكَ، كأنهما مصلوبتانِ فيهما تماماً، لا مناص.

أنا وخاتمي هنا والليل طويلٌ بطولِ الوجع. فمتى تزيلُ حَرجي؟ متى ترِق؟ متى يتوقفُ الزمن حتى تجيء؟ متى تهبني لآخرِ العمرِ قُبلةَ حياةٍ مديدة؟ فأنتَ العمرُ وأنتَ الختام.

المنشور الاخير