أتمّ حزنك عليّ (الجزء الأول)

Dali_Salvador-The_Whole_Dali_in_a_Face

أعتقد أني تدبرت موتي بشكل جيّد. أدركُ ذلك بغريزتي النافذة وإحساسي الذي لا يخيب. الآن وأنا في الجهةِ الأخرى يمكنني أن أكون واضحاً تماماً في مسألة العواطف تجاه الأشياء. هنا لا شيء مزيف وكل الأشياء كما تجب. قبل أسبوع شممتُ رائحة غريبةً. كانت على مسافة ذارعين من قلبي. ذراعين بطول ذراعيّ قصيري الطول ومع هذه الرائحة وجدتني تلقائياً أتحسسُ كتفيّ وألتفتُ لهما باستمرار. هكذا وتلقائياً أيضاً وجدتني في محل عِطارة أشتري كافوراً وبعض الزيوت العطرية ثم عرّجتُ على صديقي حارسَ المقبرة الذي لا يريدُ الموتُ أخذه، لأشتر. كانت رائحة غريبة لم تمرّ عليّ قط. وأقربُ تشبيهٍ لها أن تكون رائحة محلِ عطارةٍ انفجرت فيه قارورة عطر.ي كفناً. هذه المرة وقبل أن يسألني كيف أنت؟ نظرّ مليّاً في عينيّ ومضى إلى داخلِ حجرته. قلتُ له: هذه المرة أريدهُ أنيقاً وشديد البياض رغمَ التشابه. قال من الداخل: لا تذهب من دوني. عادَ إليّ وأعطاني كفناً وعادَ دون أن يدعوني إلى كوبِ الشايّ الذي أحبُ من على موقدهِ العتيق. ولمّا  كنت مشغولاً بالرائحة، ساورتني نفسي أن أعود إلى بيتي حيثُ الظهيرةُ بدأت تلّحُ في الحرارة والثقل وأن أنام.

عندما صدح أذانُ العصر كنتُ قد فتحتُ عينيّ أتأملُ سقف غرفتي لم تكن المرة الأولى التي أتأمله فيها. هذه هي حالتي الدائمة التي أستفيق منها على صوت الأذان بعد أن يكون راودني حلمٌ ما. هذه المرة استللتُ قلماً وبدأت بتدوين ما يخيّلُ إليّ أنه الحلمُ والأشخاص الأقرب للذاكرة حتى لا أنسى. فمذ تلك الرائحة راودني احساس بأهميتها، والتدوين سيساعدني في احتساب تحركاتي في الأيام القادمة. وهكذا توجهتُ  إلى المسجد لأداء الصلاة وسؤال الإمام بعض الأسئلة التي سيهمني أن أعرفها حين ينتهي الأمر كله. كانت المرة الأولى التي أتجهُ فيها للأمام في المسجد بدل الخلف والخروج. الخطواتُ الابتدائية للإقبال على كل الأشياء المجهولة وغير المحسوبة بدقة رنانةٌ دائمًا. زهو السجاد الرث كان يداعب قدميّ. ناديتهُ ولما التفت إليّ ذُهل لأنني المنادي. ربما لأنه لم يسمع صوتي قط. توجه إليّ بوقار المتوجس ووجهتُ له بعض الأسئلة التي كانت تهمني عن أمانته وورعه. جاوبني برويةٍ وامتعاض وحالما انتهيتُ شكرته وأدرت وجهي للخلف ومضيت، وأظنني سمعته صوت الذهول في نبرته حين تمم بما يشي أنه يظنني ممسوساً أو آثماً مسلوب العقلّ. ربما كان ذاك لدهشته من أني لم أتجاوزه دون اكتراث كأنه غير مرئي للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان رأسي مثقلاً والرائحة تقترب مني كأنها تتعمدُ النفاذ إلى أنفي، لذلك قررت العودة إلى المنزل متجاهلاً وقتي الأمثل للتكسع في إحدى المقاهي الجانبية وقراءة الصحف اليومية دون أن يكون للوقت قيمة.

استلقيت على فراشي متأملاً سقف الغرفة من جديد. ليته يتكلم. رؤيتي للحياة كانت فكرة مصغرة عن حياةِ جدتي التي عشتُ معها مذّ ولدت. أعنّي من وقت وفاةِ والديّ. كانت فكرة لأني أعيشها دون تخطيط ومصغرة لأني ما اتخذت فيها رفيقًا بالمعنى الحرفيّ. كل تصوراتي عن الحياة كانت مترهلة كما تجاعيد يديّ جدتي وعينيها الضيقتين. كانت تخاف عليّ لأني وحيد ولم تسأل يوماً عن وحدتي، كانت توجهني دوماً وتنسى أنني بلا وجه. كان الفراغ الأكبر في حياتي هو معرفةُ الوجه الذي أنتمي له. لم أكن أشبه جدتي، ولا جدي قبل أن يموت كما تحتفظ به ذاكرتي ولست أدري إن كنت أشبه أحد والديّ لأن جدتي كانت ترى بعينٍ واحدة فقط! كنتُ وسيماً في أعينِ الناس لولا قصِري المُفزع لرجل ثلاثينيّ غامض وكنتُ مَسخاً في عينيّ عصيّاً على التسامح معها.

كان نومي متقطعاً وضيقاً لأبعد الحدود، فواصل كثيرة ومشاهد غير مكتملة. دمٌ هناك وصراخٌ من هنا. وأناس لا أدرك تداخلهم في الزمن المنقطع من هذه الأحلام المتصلة. صحوتُ متوتراً وعلى ملابسي يطفو عرقٌ حار. توجهت لأخذ دش حار لأتخلص من بقايا هذه الليلة. تحت الماء كنتُ أحاول أن أهدهد صوت ضربات قلبي. لستُ معتاداً على أحلامٍ من هذا النوع. أحلامي كلها مرتبة وسلسة ومفسرة لذاتها كدخانِ سيجارٍ منفوث بمزاج عال. كان صوتُ الاضطراب أعلى من كل المستويات. بعد أن عادت ضربات قلبي لطبيعتها خرجت من تحت الدش وضعتُ المنشفة على خصري وتوجهتُ للمطبخ لإعداد كوب من الشاي واداريتُ خلف دفء الدخان الذي يخرج منه ومسكت قلمي.

كانت سلمى الجزء الأصعب من الحلم. سلمى جارتي الهندية الجميلة الصغيرة والتي تحبني. لم تفصح عن ذلك ولكني أعلم. اتساعُ عينيها عند مروري بجانبها وهي تراقب الباب. ورنةُ خلخالها حين أقتربُ من جوار البيت لا يخطؤها سمعي: أحبك. حديثُ الأشياء الصامت أحياناً أكثرُ صدقاً من الكلامِ المنطوق. كانت تقهقهُ في الحلم كما لو أنها لم تضحك قط. كان عليّ أن أتذكر أشياء أكثر من كل الأحلام لأربطها بها؛ بقصة قهقهتها. كان عليّ الذهاب للأشياء الأكثر وضوحاً وترميزاً والاعتماد على حدسي بشكل أكبر من كل مرة حتى أستوعب كل ذلك.

اليوم الثاني:

في المساء كان حسين شارداً ونزقاً كعادته، جلستُ إليه وأخبرته أنني لن آخذ من وقته الكثير. ردّ متململاً: خذ الكثير فليس لديّ شيء سوا الوقت! لم يكن في حسباني أن أخذ الكثير من وقته لعلمي بأنني لستُ شديد القوة ولا سليط اللسان. مددتُ له بالكيس الصغير. قلتُ: “له هذا أمر لا يعنيني مُطلقاً ولكنهُ مهم لك”. نظر إلى ما بداخل الكيس ببرود فاحمرت عيناهُ غضباً فسارعتُ لاتمام ما أتيتُ لأجله. قلت له “لستَ عقيماً، أنا حلمت، وهذا سيساعدك”

يتبع..

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *