أتمّ حزنكَ عليّ (الجزء الثاني)

Dali_Salvador-The_Whole_Dali_in_a_Face

رابط الجزء الأول:

http://shaimajs.com/?p=1438

اليوم الثالث:

جارتي العمياء، أم العيون. كما كان يسميها كل الحيّ. كانت في انتظاري وقت الضحى. كانت تأتمنني على أسرارها وأحلامها وكانت تأنسُ إلى تفسيراتي العفوية لما يأتي فيها. كانت تعرفُ كل شيء عن كل شيء. تقول: أنها أيام الصبا كانت لها عيون واسعة تفهم وتحلل وتفكر. كانت تفعلُ كل شيء بعينيها. لذلك معها لا توجد أسرار. أسفها الكبير أنها لم ترى والدي قط، ولم تستطع أن تجزم لي أنني أشبهُ أمي. شديدةُ الذكاء إلا في تزويج بناتها الأربع. تمازحني باستمرار: لو جاز الأمر لزوجتك بناتي الأربعة. كنتُ أحبها وأسعد لحديثها. كانت تشبهُ جدتي. قلتُ لها: بعد أسبوع سيأتي عاملٌ ويهدُّ هذا السور الذي بيننا سيكون بيتي في بيتك. استغربت من حديثي ولكنها لا تحب أن تكون مُستغربة فقالت: كل الخير يا ولدي!

اليوم الرابع:

لم يكن مزاجي بعافية. كانت الرائحة تخترقُ جمجتمي. وثقلُ أكتافي يزيد. وزلزال يعصفُ بكل ما في رأسي. لم أستخدم سيارتي أوقفتُ سيارة أجرة وطلبت من سائقها أن يأخذني للبنك لأخلص بعض الأوراق. كان عليّ استبدال وصيتي القديمة بأخرى جديدة. ومن ثم تقسيم المبالغ المتوفرة في حسابي لأغراض مختلفة. لم أكترث يوماً بما في حسابي ولكن تفاجأتُ لكثرته. لأول مرة أحسُ بثقل الوحدة وبشراسة الإنتظار وطعم الاطلاع الذي لا أمل منه. للمرة الأولى أحسُ بثقل أن تحمل شيئاً لا تستخدمه لا تتعاطاه ولا تتعامل معه إلا بالحدود الدنيا. أن تتحول الأشياء من عادية إلى مهمة وتشعر بها تجثو على صدرك. كان ضرورياً أن أصل المسجد وقت صلاة الظهر. وأعطي الإمام بشهادة اثنين من المصلين معه رسالته الأولى ليقرأ التالية بعد أيام ليعلم أني وكلتُ له مسؤولية ايجار المنزل.

اليوم الخامس:

“صديقي حارس الموتَى. إنه ليحزني أني لن آخذك معي الآن. ولكني أعدك أننا سنلتقي بعد عدةِ أيام من حزنك عليّ. عليكَ أن تتمَ حزنك علي ثلاثة أيام يا صديقي. أريدك أن تخرج من بيتك وتلتقي بوجوه الناس لأول مرة بدون وجهي لتخبرني لاحقاً بما قالوه عني. لاحقاً عندما يصيبني الملل وإياك من أحاديثنا الحلوة. أريدُ أن أوصيك شيئاً. أعرف أنك تدري، نعم، إنه عن جارتي الهندية الجميلة سلمى. رأيتها في منامي تقهقه حتى فارت أوردتها من أسنانها البيضاء. ليس مهماً ما رأيته بعد ذلك ولكن عليكَ أن تطرق بابها غداً بعد السابعة مساءً ستكون هي في انتظاري، أعني في انتظارك اطرق الباب برفق وأعطِها الظرف المرفق في هذه الرسالة إنه يا صديقي خاتم أمي الذي لا يشبهني. قل لها أيضاً أن تسمي ابنها الذي ستلده في السنة القادمة “ظافر” قل لها أن أيامها القادمة لن تكون معلقة على قدمٍ قصيرة. ستكون أفضل. آسف على هذه الطلب المباغت ولكن وحدك الذي يمكنك أن أناديه صديقي! نعم أنت صديقي لأنك تحرسُ الموتى ولن تتخلى عنهم إلا لتكون معي. الآن أدرك ذلك، لذة أن يكون لك كتف. أنت صديقي. لا تنسى أن تكون متواجداً في صلاةِ الفجر بعد غد. سأكون هناك بانتظارك”.

اليوم  السادس:

الصداع لا ينفك عني، ثقل كتفي الزائد، ولا أقوى على السير. أنا مستعدٌ ولكن ليس على النحو الذي أردته. قمتُ من فراشي لأمارس كل ما يجب أن أفعله لليوم الأخير. سأفعل ما أفعلهُ كل يومٍ وبحبٍ ولأولِ مرة. عتبةُ الباب حادت قليلاً. سلمى في انتظار مروري، لم أتجاهل عينيها وابتسمت لها. قهوةُ أم العيون لها طعمٌ خاص. قالت لي: أن صوتي اليوم أجمل من كل مرة. فقلت لها: لأنك تبصرينه كما يجب. الحلاق كان رائق المزاج واعتنى بي جيداً. كل شيء كان صحيحاً وواضحاً. إذاً هذه هي الحياة، نحتاج أن نموت لنراها بشكل أوضح. عابراً بسيارتي ببطء ملحوظ، آخذ الأنفاس الأخيرة التي أستطيعها. أخزّن روائح الأشياء وأشكالها كأني أبصرتُ للتوّ أشياء تبّدت لي كأني أراها أول مرة. على الشاطئ جذبتني رائحة السمك المشويّ المنبعثة من المطعم المجاور. طلبتُ طعاماً يكفي لقبيلة واسترسلتُ في الأكل بعد أن دعوتُ كل الموجودين على طاولتي لمشاركتي هذه الاحتفالية؛ كانت احتفالية لأني لم أفعل شيئاً من هذا القبيل قط، لم أدعو احداً لتناول وجبة معي ولم أتكلم يوماً على وجبة طعام ولم أضحك وأثرثر كما يثرثرُ البعض مع الغرباء. فعلتها للمرة الأولى والأخيرة مُتناسياً حيرةَ وجهي، وقصرَ قامتي. ودعتهم ومضيت لمنزلي الذي سأشاهده للمرة الأخيرة.

اليومَ فجراً:

واقفاً من بعيد أرقبُ الإمام وهو يتقدمُ ويدفع باب بيتي بخشوع تام، ومعه عدد من الرجال الذين لم أتعرف عليهم. كان شكلي هادئاً وفي الحقيقة أعجبني. لم أكن لأدرك بأنني وسيم وطويل وأنا مستلقٍ كهذا بهدوء وشبه ابتسامة تعلو وجهي. متخففاً من الثقل الذي حلّ بكتفي ومن الرائحة التي كانت تطاردني. بكى الإمام وهو يقرأ علي ما تيسر من القرآن. بكى وهو يتذكر مروري عليه لأسأله أن يمّر علي البيت لأمر ضروري مع بعض الرجال فجراً: قلتُ له وأنا أدير ظهري له: أنت مُستأمن. بكى وهو يقرأ الرسالة الثانية التي وضعتها على كفني بجوار السرير. رسالتي التي كتبت فيها: “لا شيء سوى أني أتيتُ لهذي الحياة مسلوباً من كل شيء، لأعطي عند رحيلي كل شيء”.

بدلاً من أن تقهقه سلمى بكت قليلاً ثم ارتدت الخاتم فيما بعد وتزوجت. وبدلاً من أن يحزن عليّ حسين كان فرحاً لأني بشرته بحمل زوجته بعد سنواتٍ عجاف. وبدلاً من أن تحزن أم العيون وبناتها عليّ، سُعدّن بامتداد المنزل الجديد الذي جلب لهن حسنَ الطالع حتى تزوجن. وعوضاً من أن يمضي ابن الإمام حياته بلا وظيفة صار له الآن عملٌ وهو استلام ايجار منزل والديّ وتوزيعه على احتياجات أهل الحي. كان كلُ شيء سعيداً رغمَ أني كنتُ أريد أن يحزن عليّ أحد حزناً حقيقياً لكن لم يفعل ذلك أحد. صديقتي حارس، حارس الموتى حزن لأني متّ وفرح لأنه سيلتقيني.

من الأعلى:

ظافر، أنا الرجلُ الذي يعتمدُ على حدسه بالحياة قبل أن يشعر بها. أنا الرجل الذي لا يعرفُ وجهه وظل عمراً يبحث في السقف عن شبهٍ له. كنتُ أعيشُ في شرك الأحلام التي أحلمها وتفسرُ نفسها أمامي. كانت الحياةُ حلماً وآن أوان اليقظة. وأول اليقظة أن أراني بوجهي الذي يشبه وجه العائلة. ورائحةُ النقاء تتسربُ من التربة. استقبلتُ صديقي وبكيتُ للمرة الأولى في حياتي ومماتي لأني أدركت وجهي أخيراً. أدركتُ أنهُ مزيج من شُحِ مشاعر أبي وقصرِ قامةِ أمي وتجاعيد يدّ جدتي. من هنا رأيتُ حقيقة الحياة وأن قلبي الذي لم يخفق قط، خفق هنا للمرة الأولى فعلاً.

Similar Posts

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *