مدد يا رب الأكوان مدد..
تركيا-اسطنبول-صيف 2012
(الرحلة الصوفية)
كان من المخطط أن نذهب إلى أحد العروض الصوفية العريقة والتي تشتهر بها تركيا وأشهرها في منطقة السلطان أحمد. عموماً لم تنجح الخطة فذهبنا إلى “حضرة حقيقة” على الطريقة “الجراحية” والتي أسسها الشيخ نور الدين الجراحي. دخلنا إلى البيت المخصص لهذه الحضرة والذي يسمى بـ”الزاوية” وتمتد هذه الحضرة من قبل صلاة المغرب بساعة وحتى الساعة الواحدة ليلاً. في المرر المؤدي إلى مكان “الحضرة” عبرنا في مرر به 3 شبابيك، الشباك الأول يطل على مجلس الشيخ نور الدين والثاني على غرفته والثالث على غرفة قبره “ضريحه”. ويمر المنتمون إلى “طريقة” الشيخ نور الدين على هذه الغرف ويقرأون على روحه السلام وبعض الآيات. يقال أن الشيخ بدأ في حفر قبره قبل أربع سنوات من وفاته وظل خلالها يقرأُ عليه حتى وافته المنية ودفن فيه. وكلما قيل له: يا شيخ ألا تخاف منه؟! يقول لهم: هذا بيتي فهل يخافُ الإنسان في بيته؟!
دخلنا إلى المكان المخصص للنساء في الطابق العلوي ويطل على الجزء السفلي المخصص للرجال. وأول ما يجب أن تفعله حين تدخل أن تسجد! ولم نفهم ماهية هذه السجدة وأعتقد أنها لإظهار الاحترام للمكان وهيبته. جلسنا بهدوء وبدأنا بمحاولة استيعاب ما يقال ويردد. أول الجلسة حتى صلاة المغرب تخصص للذكر والذي يكون بترديد بعض الآيات والصلاة على النبي وذكر لأسماء الله الحسنى. ويتم ترديد كل ذكر بثلاث طبقات صوتية “ارتفاعاً وتسريعاً”مع هز الرأس والجسد واغماض العينين في حال “الخشوع التام” وحتى تدخل في “الجو” العام، وفي بعض الأذكار مع تكتيف اليدين ويكون شيخ الحضرة هو الذي يبدأ الذكر ومن ثم يبدأ المريدون الترديد معه. ومن الأذكار: “لا إله إلا الله/ اللهم أنت المانع المعطي/ صلى الله على محمد..الخ”. ثم وقبل صلاة المغرب مباشرة تقرأُ سورة الملك بصوت ثلاثة قرّاء. ثم صلينا المغرب في جماعة وفور الإنتهاء من الصلاة ردد الشيخ أذكار ما بعد الصلاة والمريدون وراءه، ثم ركعتي السنة. ثم يبدأ دور جديد من الذكر.
بعد انتهاء الصلاة خرجنا من “الحضرة” نظراً لازدحام المكان “بالمريدات”. كانت التجربة مثيرة لولا حرارة المكان التي اضطرتنا للخروج من الحضرة
الطريقة المولوية (السماع- الدروايش)*
ذهبنا في اليوم التالي إلى عرض الدراويش على الطريقة المولوية والتي تعتبر الأكثر شهرة بين الطرق الصوفية. وتعتبر المولوية قائمة على الحب والتسامح. كما تعتبر من أهم ملامح التراث التركي وثقافته حيث تمتد لأكثر من 800 سنة.
والسماع هو ترتيل الأشعار الصوفية التي تتغنى بحب الذات الإلهية والرسول عليه الصلاة والسلام مع موسيقى معينة تدخل فيها –على حسب البلد والطريقة- الآلات التالية: الطبلة التي تمثل أمر “كُن” والناي حيث يعزف عليه 3 مرات وتعبر المرة الأولى: عن خلق الله عز وجل للشمس والقمر والمجوم وكافة الكائنات غير الحية. أما الثانية فتعبر عن خلق النباتات والثالثة عن خلق الحيوانات. والعود. ويرتدي الدروايش بدلة خاصة من زيين، الأول الزي الأبيض الموت والرداء الأسود ويثمل القبر والقلنسوة شاهد القبر.
أما الوضع الذي يبدأ به العرض فتكون فيه يديّ الدرويش موضوعتين بشكل متقاطع على الكتف لتمثل حرف الألف الممثل لوحدانية الخالق. وبدأ الدوران يشير إلى بدء الخليقة. ثم ترتفع أيادي وتكون الكف في اليد اليمنى تشير إلى الأعلى والكف اليسرى إلى الأسفل وتمثل: “أننا نأخذ الحق من الله وننشرهُ بين الخلق” أما الحركة الدائرية فتمثل حركة الأفلاك. ويقال: عند دخولك في السماع تخرج من كلا العالَمَيْن، فعالم السماع خارج هذين العَالَمَيْن”.
بالطبع كان العرض مخصصاً للسواح وليس عرضاً مولوياً حقيقياً وبغض النظر فقد كان العرض مذهلاً، الموسيقى كان مُرهفة تحسُ معها برغبة جارفة بالبكاء خصوصاً صوت الناي. كان أحد الدروايش متأثراً وحركاته متناسقة بشكل يختلف عن الباقيين، كان هذا كائناً “متجليّاً” في فلك آخر-أعتقد-.
عموماً كانت (التجربة الصوفية)، تجربة رائعة ومميزة ولم تكن التجربة التركية لتكتمل بالنسبة لي بدونها. كان جميلاً أن تتعرف على العالم الحقيقي ليس فقط بما تحكيه الكتب بل على أرض الواقع. هذا العالم يجعلك تفكر بعمق في تاريخ البشر وطريقة تفكيرهم، واستيعابهم للكون ووجوده ودلالاته. وبعيداً عن المعتقد وشاعرية الكلمات، أعتقدُ أنه من الجميل أن يكون الإنسان خالياً من كل شيءٍ إلا من الذكر مُسخراً “كلهُ” لمواجهةِ إيمانه مُستحضراً روحانياته و”الله”. الإنسان في أسمى حالاته وخشوعهِ كوليد بين يديّ الله. يرتجي ما لا يعرفُ إن كان سيحصلُ عليه أم لا. زاهداً في الحياةِ إلا من كلمات تقربهُ لقلبه ولروحه. وترشدهُ إلى السماواتِ العُلى.
وليس هنا مجالٌ للتعريف بالصوفية وطرقها وادراج ما قيل فيها. إلا أنني أوّد القول أن علينا النظر إلى الجوانب المشرقة في كل شيء، وبعيداً عن ما يقالُ عن الصوفية من كلامٍ سلبي ففي المقابل هناك تصوف حقيقي مُرهفٌ وساحر. يقول ابن القيّم: “التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحبه، فان المرء مع من أحب”.
* بعض المعلومات هنا مقتبسة من البروشور التعريفي بالمركز.
التجربة تجعل الانسان في أقصى لحظات الحقيقة صدقا وعمقا .كنت من الذين عاشوا مثل هذه التجارب في مرحلة من مراحل الشباب من الأقصر إلى دبي إلى مراكش إلى متحف اللوفر وشوارع بريطانيا وغرائب العالم لأن التجارب تؤخذ بحقائقها . يلفت نظري متأملا تصوير المشهد الذي لا يقل جمالا عن الحروف . فلسفة تأثرت بها ولم أفاجأ بها .
هذه طقوس ما أنزل الله بها من سلطان، الذكر والعبادة كما ورد عن النبي
ووقع بالبعد عن تعاليمه الخطآ العظيم كالسجود لغير الله والأذكار المخالفة لسنة الحبيب
يقول الرسول يوم القيامة: أمتي أمتي قيقال له لا تعلم مأحدثوا بعدك