الظلامُ الذي يستولي على أرواحنا..!
عدُنا من رحلةٍ بريّة من احدى الدول المجاورة كانَ الوقتُ عصراً. الشمسُ ترتخي بهدوء على الكثبان الرميلة والجو ساكنٌ يعطي الصحراء بُعداً آخر، ومحمد عبده يغني على عودِه: “ما عاد بدري تدري العمر مرة..سرقت سنينه مننا كيف لحظات” مرت بنا (الموائدُ الصحراوية) بأشكالها البديعة الخلابّة التي نحتتها عواملُ التعريّة. كانت دعوةً مفتوحة للتأملِ في هذا الجمال الصامت و”الصمتُ في حرمِ الجمالِ جمالُ”.
حينَ يرى الإنسانُ الأشياء بصمت يكونُ متأملاً، لأن هالةَ الصمتِ تسبغُ على الأشياءِ حلةً من نور وتمنحهَا فرصة التجلي في أبهى صورة. ولأن التأملَ مِصفاةُ الروح فهو لا يجيءُ إلا معٍ نفسٍ مطمئنة وعقلٍ غيرَ مرتاب. والطمأنينةُ التي تأتي مع حلاوةِ الصمتِ تمنحهُ هيبةً وتهبُ العقلَ وقاراً.
هل انتبهت مؤخراً إلى صوتِ طفلك وهو يُكلمُ نفسه..تعابيرُ وجهِ زوجتك وهي ترتبُ ملابسك..لونُ باب المنزل..رائحةُ عطرِ أمك المميزة..التجاعيدُ التي تنحتُ يدّ والدك..حركةُ السياراتِ المُنسابة..طريقةُ مسكك لمقود السيارة؟ الكثيرُ من الأشياء الصغيرة والبسيطة التي قد لا تكونُ ملفتة أو غير ذات أهمية ولكنها رصيد لذكريات وقصصٍ سترويها يوماً للأجيال مثبتاً وجودكَ في حياةٍ صنعتها بيديك وكنتَ فيها حاضراً بكل ما فيك. هذه الأشياءُ الصغيرةُ جداً حولنا والتي لا نعيرها اهتماماً ما إن نلتفت لها مرة واحدة بعينٍ ثاقبةِ البصيرة حتى تتجلى لنا روعتها وحسن تنظيمها فنقفَ أمامها متسائلين: منذ متى كانت هنا؟!
روعةُ استكشافِ الأشياءِ المحيطةِ بنا لأول مرة قد تكونُ أكبر من اكتشافِ أشياء بعيدةٍ قد لا نعودُ لها. فالأولى نحيا بها وترسمُ ملامحها فينا والثانية عابرة وقد تكون بصمتها وقتية. إننا حينَ نكثرُ من الأشياء حولنا نفقدُ ارتباطنا بها شيئاً فشيئاً ونظلُ في سباقٍ مع أنفسنا ومع الزمن في محاولةٍ لسدِ تلك الهوةِ التي لا تمتلئ. وحقيقةُ الأمرِ أننا غيرُ مجبرين على السباقِ أصلاً. فالسباقاتُ السريعة لا تمنحُ النفسَ فرصة للتمتعِ بما حولها فتمرُ عليها مرور الكرام وهذا المرور لا يروي النفس التي تحبُ التروّي.
هناكَ صوتٌ للأشياء الصامتة، تلك التي تحاولُ لفت انتباهنا مراراً ونحن لا نسمعها، لا نكترثُ لها ولا يعنينا أمرها. صوتٌ قد لا نسمعهُ إلا حين يكون ذهننا خالياً صافياً. قليلةٌ الأشياءُ التي نحسنُ الإصغاءَ لها لكثر ما مرت على مسامعنا فألفناها ولم يعد لها ذلك الوقعُ مع كثرةِ الأصوات. أما الأصواتُ التي تأتي على مهلٍ وتروٍ فإنها تلفتُ انتباهنا وتنبهُ حواسنا فنصغي وعند الإصغاءِ تتحولُ الأصواتُ الهادئةُ إلى نغمٍ يلفتُ الإنتباه لشدةِ تناغمه وتميّزه. ومن يصغي كثيراً يعرفُ كيفَ يأخذُ بناصيةِ حياتهِ فيديرها بثباتٍ وذكاء.
سنعيشُ الحياة لمرةٍ واحدة، وهذه المرة تستحقُ أن نعيشها بقلبٍ حاضرٍ وعقلٍ صافٍ ونفسٍ مُقبلةٍ على الحياة، تتعافى من الألمِ بسرعةٍ، وتستمتعُ بلحظاتِ الفرح وتلمحُ الجمالَ في كلِ شي. لا يوجدُ شيء في الحياةِ يستحقُ أن لا نعيشها بسلام فنكدر خواطرنا بأشياء صغيرة لا تستحق. هناك أشياءٌ في الحياة تستحقُ التجربة، تستحقُ أن تُعاش كما يجب. تستحقُ أن لا تمر علينا مروراً عادياً. ليس كلُ مبصرٍ مبصر، وحدهم ذوي البصيرةِ يفهمون الحياةَ كما يجب ويعيشونها كما يجب.
لي ما يقاربُ السنة ونصف السنة وأنا أعملُ في ذات المبنى، لا أذكرُ أني انتبهتُ يوماً للون المبنى الخارجي! لا أذكرُ أني أعرتهُ انتباهاً في أي مرة، إلا أنني في يوم غابت فيه الشمس قليلاً –لحسنِ حظي- وكان ذهني صافياً تماماً انتبهتُ للون المبنى الذي بدا جميلاً وناعماً في نظري. كانت المرة الأولى وكان لها وقعها الخاص. كان يوماً استثنائياً وأنا ألتفتُ لطريقةِ مسكي للقلم وألاحظُ ارتفاعَ حاجبي أثناء الاندماج بعمل ما. تسائلتُ بيني وبين نفسي: متى كانت آخر مرة نظرتُ فيها للأشياء بذاتِ العين وأشرعتُ قلبي للحياةِ بذات القدر؟ لكم أن تتسائلوا، أكيدةٌ أنكم ستجدون حولكم ما يذهلكم وينير أي ظلام يستولي على أرواحكم.