خاتم

هناك ساعاتٌ يقتربُ فيها الإنسانُ من المَوت ثم ينتقلُ فجأة في دوامةٍ شعورية متوترة وغير متناسقة من المشاعر ثم يعودُ مرة أخرى إلى الإحساس بالحياة بمشاعر لم تستوِ بعد. هكذا أنا، أتوهُ كلما هاجمتني حقيقةُ بُعدك. والحقيقةُ التي تؤلم جَلدٌ للنفس. أتدارى أنا التي أوازي رقة الغَسق بصلابةٍ انتميتُ لها بغةً وناسبتني. أتمادى كُلمَا أحسستُ بقربك وأتلمسُ طريقي في عينيك وأسلكُ من خلالِ قلبك. قلبك الذي أحفظه. قلبكَ الذي أنتمي إليه. قلبكَ الذي يُحبني ولا يقدرُ قُربي.

للحبِ سطوتهُ التي لا يمكنُ مُقاومتها، وكل محاولة إما أن تبوء بالفشل وإما أن تكسر فيك ضلعاً. وأضعلي شاخت في حبك وما زالت تنحني حتى تقاومُ الكسر. أحبكَ وأعرفُ أني أعيشُ مجازفةً كبيرةً. وبين عقلي وقلبي مناوشاتٌ ينتهي أغلبها إلى المصالحةِ فلا يسعني إلا أن أحبكَ أكثر. أجالسُ نفسي في غرفتي حيث لا أحد سواي وأحلامي معك. تقتربُ مني وينهالُ عليّ عطرك وأغيبُ فيه. منكَ العطرُ يستحيلُ حياةً أخرى. معكَ استغنيتُ عن عطوراتي واستبدلتها بعطرك حتى تكونَ بينَي فلا أحسَ بهذا البُعدِ الذي يقتصُ مني. عطرك العالقُ بين رموشي مشكلتهُ أني أشتمّك، وأراك ولا أستطيعُ ضمّك إليّ.

صورتك التي أحبها أمامي وأنا أتأمل علبةُ المجوهراتِ التي لا قيمةَ لها بدونك، لأنك أنت البريقُ في عينيّ. هذهِ الأقراطُ زينتهَا أنها استمعت إليك. وهذي الخواتمُ كالهدايا لأنها لامست أناملك قبل أناملي. والأسوار ما كانت لتزيّن معصمي إلا وأنت تُلبسنيها. أما القلاداتُ فأنت تعرفُ أني ما كنتُ لأطيقهَا لأني أحسها قيداً وثيقاً لا أقدره. كيف هي زينتي اليوم يا حبيبي؟ صوتك لا يصلني. صوتي مبحوح. يختفي البريق، أقلبُ الصورة، أغلقُ العُلبة وأنت غائبٌ. والغيابُ ليلٌ طويلٌ وحيد.

إنك قَادر. تأتي الغيابَ وأنت تعرفُ جبروته. تأتيه متألماً خائفاً عليّ ثم لا تأتيني. تطلُّ عليَّ من شرفاتِ الحنين وأنا أزرعُ الصبرَ حتى أقطفهُ معك إلا أنك تأبى إلا النظر وتكتفي به. الكفافُ منكَ يكفيني حتى وأنا أطمعُ في داخلي بالمزيد منك والمزيد. لا لأني لا أقنعُ ولكنكَ معي بينَ الحيانا وعطركَ ينسابُ بانثنائي وخاتمٌ في اصبعي يقولُ أني نذرتُ نفسي لك.

هذا الخاتمُ الذي لا أخلعهُ يجعلني أشعرُ بالخجل لأن الكل يحسبُ أنك معي وأنا أعلمُ يقيناً أني لم أصبح بعدُ أماً لأولادك لأنك ما زلت تتصابى عليّ. وأنا أمٌ رؤوم أتغاضى بدافعِ الحب، وأحبُ بدافعِ الإعجاب أن لي ملاكاً فريداً يدهشني كلَ حين. فكيفَ لك أن لا تعطيهِ روحهُ وأنت روحه؟ لا أحبُ أن أُسْأل: هل ما زالَ في القرب؟! لأن ما ينظر إليه الآخرون غير ما أراهُ أنا. أنا أراكَ بعينِ قلبي، وقلبي يقولُ أنك باق. وهم يرونَ أنك راحلٌ لا يدرونَ أني رَاحلتُك فأنّى تروح!

أنك قادر. أنا أشفِقُ عَلَى نفْسي في غيَابك لأَني أُحسُك أَقرب من النَفْسِ والنَفَس. وأنت تمعنُ في الغياب. تطالهُ يديكَ كما تنالُ رضايَّ عليك مع كلِ اطلالة! وتُسرف. يُضنيكَ الغيابُ إلا أنك تكتفي برؤية القمر لتراني فيه وتكتفي. أشفقُ على نفسي لأنك أكثرُ مني فيّ. بَيني وبينك أكثرُ مما بيني وبينَ نفسي. أشفق على قلبي لأنك تقْلبهُ ثم تُقبِلهُ فلا تكونَ إلا قِبلتهُ وأقبَل ذلك وأحبك! إنّي أشتاق، وهذا الشوقُ يؤلمني. وأحسُ بالوهنِ كوني أحبك وأنَ البعدُ بيننا أكثرُ من القرب. أوّدُ أن أسحقَ المسافاتِ بيننا ولكنهَا تسحقني. وأنت لا تمدُ يديكَ لتساعدني.

هذه الوحدةٌ أليمةٌ يا سندي. وأشدُّ أنواع الوحدةِ ألماً تلكَ التي تتكونُ في داخلك متأرجحةً بينَ الوجودِ وعدمه. أنْ تكونَ موجوداً غائباً وغائباً موجوداً. أنا وهذا الخاتمُ بيننا نذرٌ طويل. نذرٌ واحدٌ طويلٌ بلا فواصل ولا نقط. نذرٌ بنَفَسٍ واحدٍ وصوتٍ واحدٍ عيناهُ مصوبتانِ في عينكَ، كأنهما مصلوبتانِ فيهما تماماً، لا مناص.

أنا وخاتمي هنا والليل طويلٌ بطولِ الوجع. فمتى تزيلُ حَرجي؟ متى ترِق؟ متى يتوقفُ الزمن حتى تجيء؟ متى تهبني لآخرِ العمرِ قُبلةَ حياةٍ مديدة؟ فأنتَ العمرُ وأنتَ الختام.

Similar Posts

3 Comments

  1. مبدعة كما عهدتك دائما .. كلماتك زادت من غربتي ووحدتي ومن عذابات قلبي

    مزيدااا من التألق والتميز والإبداع
    دمت حبيبتي شيماء

  2. في روعة الكتابة تشرق الكلمات,وتبتسم الحروف,وترق المعاني,فقط لأنها كلمات صادقة تعانق القلب, تساكن الروح وتأنس بالأنين.
    حين تسمع الكلمات تبكي,حين تحس قلبا قد انبرى’نقابيا’ يدافع عن قلوب ,عن مشاعر,عن مشاعل,عن أحاسيس تذوب بين تفاهات الذهب والجواهر في غياب الجواهر,حين تقسم ظهرك الحروف,حين تتسلل الى قلبك المعاني سيلا تسوناميا جارفا دون أن يعبأ بها الرقيب ,حين تشعر بالبرد في عز الدفئ,حين تسافر بك الدمعات ويحرق الندى أهذاب الشرفات.
    ألوذ بالسكون وألتحف السكوت وأنتظر محكمة القلوب عند علام الغيوب فهناك تلملم العذابات جراحها وتلاقي الأشواق أذواقها في رحلة الموت وموت العذاب.
    أرتشف نسمة الزهد وأمتطي ضوء الحنين مؤنسا لتلك القلوب الجريحة التي خبرت معنى الغياب وأدماها جرح الثواني وألهب حسها وهج السؤال وهنا توقف الإرسال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *