حَاشَ لله أَنْ أتَمَذْهَب..!

عندما بدأت التدريب على قيادة السيارة، كان لدي هاجس كبير وهو: كيف يمكنني أن أحافظ على السيارة داخل “الحارة” الواحدة كما تسميها أمي دون الدخول في “الحارات” الأخرى. أذكر أني كنت أركز جداً حتى أوازن السيارة التي لا يمكنني رؤية مقدمتها كاملة داخل الخط الواحد دون الدخول في الخطوط الأخرى و “ماله داعي حد يعصّب عليّ”. بعد فترة قصير صار الموضوع بسيطاً لم يعد ذلك هاجساً أبداً، ولم يعد للطريق تلك الرهبة التي كنت أتخيلها بل صار تلقائياً ومنساباً وصار من الطبيعي أن أتنقل بين الخطوط المختلفة دون أي عائق نفسي وطبعاً “بدون ما أخرّع أحد”.

هذا الوضع يذكرني تماماً بالانتماءات القبلية والمذهبية والطائفية والحزبية والتيارات والجماعات المختلفة. فنحنُ لدينا زخمٌ لفظي تصنيفيٌّ هائل لا أعلمُ كيف له أن يجمعَ أو يظلَّ تحت مظلة واحدةٍ تقينا شرور الفتنة وويلاتها؟! إن الإنسان بطبعه ميّال للانخراط في مجموعة يتآلفُ معها. جماعةً تشاركهُ ذات الميول الفكرية والنفسية، هذي الجماعة تشكل له “المحيط الداعم” الذي يعتمدُ عليه في سدّ احتياجاتهِ المختلفة.

وبالطبع لا توجدُ مشكلةٌ في هذا السلوك الفطري، إنما تمكنُ في “الحبكةِ السرية” ذات المقادير المضطربة والتي تشكلُ لبَّ المشكلة. ولا يكادُ مجتمع يخلو من سطوةِ الجماعة أياً كانت ابتداءً من المدارس حيث يُقسم الطلبة حسب رغباتهم أو رغبات مدرسيهم –حسب سطوةِ الشخصيات- في الانخراط في الجماعات المختلفة “جماعة المسجد/الجماعة العلمية/الجماعة الفنية/جماعة  الطابور الصباحي..! ..الخ” وبعضها يحرمُ على الطالب الانضمام لأكثر من “جماعة”! ونكبرُ وتكبرُ فينا الانتماءات وتتوسعُ دائرتها بطريقةٍ أو بأخرى وننتمي لأفكار ونتشارك في هموم مُختلفة لنجد أنفسنا نُصنفُ من حيث لا ندري بعدة مسميات “إسلامي/ليبرالي/إخواني/سلفي/ملحد/..!..الخ”من التصنيفات التي يفجعُ بها المرءُ و”تفقع” مراراته..!

إننا في عصر الانفتاح نطالبُ أن نكونَ أكثر وعيّاً وأشد حرصاً على دهسِ مُخلفات العقول المُتحجرة والتي ليسَ لها همٌّ سوى إقصاء الآخر وإظهاره بمظهر السوء و فضح “نواياه الغير معلنة”. فلنعتبر أنفسنا في حقل مليء بالأزهار المُختلفة وليس بالألغامِ المنفجرة، ثم نتنقلُ بين الأفكار بسلاسة النحل، وخفة تحليقها بين هذه الأزهار نقطفُ ما نشاءُ من أفكار نيرة تَصقلُ عقولنا وتربّي مشاعرنا في الاتجاه الصحيح، الاتجاه الذي يجمعُ ولا يفرق، ثم من حق كل واحدٍ منا أن يصنعَ عسله بنفسه ويتذوقه ثم يعاود -إن لم يعجبهُ- ضبط المقادير من ذات الأزهار او من أزهارٍ أخر.

هكذا ننمو بشكل صحي. ليس علينا أن نطلق مسمياتٍ لا نعلمُ خلفيتها، ولا أن نفكر بما وراء الكلامِ الذي نتلقاهُ بسوءِ نية وظنٍ مريب. كل الكلامِ مردود إلا ما ثبت بالمنطق والحجة. خذ ما يعجبك من الأفكار واترك ما لا يعجبك دون اقصاءهِ بازدراء. يضيّعُ البعضُ على نفسهِ فرصة التعلم بمجرد التعصب لأفكاره دون النظرِ في أفكارِ غيره. حتى أن بعضَ الجماعاتِ تفرضُ حصاراً فكرياً على المنتمين لها بحظر استماعهم وحضورهم لجماعاتٍ أخرى معاقبةً إياهم إن فعلوا بإلغاء عضويتهم فيها! وعندها يظهرُ العقلُ المصقول بالحكمة فيعارض فكرة الحظرِ ويبحث ليتوصل إلى الحقائق. أما العقلُ القلقُ فيبقى مكانه وجِلاً أن يفقدَ ما لديه. فقدان بعض الأشياء أحياناً يكون أجمل ما قد يحصلُ لنا. والرجوع للأشياء بعد النظر والتفكّر يكونُ أكثر جمالاً لأنه غالباً يكون بعينِ المتبصّر المُهتدي.

يقولُ تعالي: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾* وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على أن الفصل في القول الحسن هو العقل ومن يميزونه هم “أولو الألباب”. وما دامَ الفضاءُ مفتوحاً، والعقلُ هبةُ الله للعباد..فحاشَ لله أنْ أتَمَذْهَب.

 _____________________

* سورة الزمر، آية 18

Similar Posts

2 Comments

  1. إنه ليؤسفني أن أقوم بالرد على أهم الخيارات القرائية بالنسبة لي في مثل هذا اليوم.. وإبداء الرأي فيها متأخرا .
    الزاوية التي أزورها في صباحات الاثنين وأسامرها أخر ساعات الأحد .. بدعاء لسابع سماء.. كالمَهاة.. جميلة جدا.. أفكار متجدّدة وثقافة متّقدة .. وحروفا ملاىء.. معتقة..تقبّل السّحاب .. بنقاط توجيهية تُنتج لنا مجتمعا دقيقا، منظما . يحترم كل الخيارات .يؤمن بثقافة الاختلاف .
    شيماء ..
    الكتابة رسالة .. والكاتب المتمكن هو الصورة الأجمل في نقل حضارة المجتمع بكل سلبياته وايجابياته .
    شكرا لك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *