عندما تهبكَ الحياةُ سِراً

حينَ بدأتُ ترتيب حقائبي للإنطلاق إلى مدينة الضباب للعمل، كنتُ أضعُ مع كل قطعةٍ شيءً من الخوف الذي يراودني حيال تركي لكل ما أملك في هذه اللحظات من أجل العمل! أحبُ غرفتي جداً، وأحب بيتنا جداً، وأحبُ عائلتي، وأحب حياتي الحالية بكل ما فيها. كانت خفقاتُ القلب تزدادُ مع اقتراب موعد السفر خصوصاً مع “حُمى المطارات” التي لا أحبها مطلقاً. أكثر من الخوف من التجربة الخوفُ من “كأني بهّوّن!”. الخوفُ من المجهول قد يحول بيننا وبين التقدمُ إذا لم نكسر حاجزهُ بشجاعة. المهم أني سافرت وعدتُ إلى الديار وكانت هذه التجربةُ أروع ما حصل لي رغمَ كل الصعاب. ولو سألتُ إن كنتُ سأعيد الكرّة لو قدّر لي الأمر مرة أخرى؟ لقلتُ بلا تردد بكل ما فيّ: نعم!

لا أحبُ تسمية السفر إلى خارج البلاد للعلم أو العمل “غُربة” ولا أملكُ لديَّ تسمية أخرى، وعلّي أقول أنها أقربُ إلى رحلة زمنية خاصة. تَبينُ جَودتها كلمَا قطعتَ فيها الطريقَ بنجاح. فالغربةُ ليست الاغترابَ عن الوطن والأهل فقط، الغربةُ الحقيقة هي الإغترابُ عن الذات. واكتشافُ الذات وحدهُ قربٌ جديد للحياة. إن هذا الزمن المُستقطع من الحياةِ الإعتيادية يمنحك قرباً حميمياً لنفسك ويعيدُ ترتيب علاقاتك الإجتماعية.هذه الرحلة فتحٌ للبصيرة وتنوير لها.

 كنتُ قلقة حيال تعاملي مع “الإنجليز” خصوصاً أن المعروف عنهم أنهم “قشرّين!” ولكنّي اكتشفتُ من الاحتكاك بهم في العمل أنهم كائناتٌ لطيفة، ولم أتعرض يوماً لعنصريةٍ منبوذة. إن شخصية الإنسان تؤثر في المُحيطين به فكلما كان منفتحاً ومتزناً ولطيفاً حضّي بقبول من الآخر أكبر. يسمعنا الأهل والأحبة مواويل كثيرةٍ بقصد رفع معنوياتنا وشحذ هممنا، إلا أن بعضها يكون أشبه بوضعنا في قفص افتراضي من حيث لا يدري. فخذ مثلاً: “لا تأمن للغُرْب ولا تقرّب من العَرب” سؤال يجعلك تفكر: “أروح لمن يعني؟! أحبس نفسي ولا أيش الوضع؟!”. الحذرُ واجب ولكن قد يكون الأمر خلاف ذلك تماماً، فقد تتعرف أثناء تجربتك على أناس بغض النظر عن جنسياتهم وانتمائاهم ويكونوا لك خير معين. في رحلتك، جالس الكل ولا تعتزل أحداً. هُناك علاقاتٌ تعبرنا وهناك علاقاتٌ تسكننا وكم هي رائعةٌ تلك التي تُلهمنا.

كثيرون يسافرون بغرض العلم أو العمل وحين تسمعُ شكواهم تظنُ أنهم في مكانٍ مقطع عن العالم، ربما يكون هؤلاء انطوائيون بطبعهم فلا ينخرطون في الحياةِ الجديدة بسهولة. إلا أن تكيّف الإنسان مع أي وضعٍ جديد يرتكزُ أولاً على نضوجه العقلي. الحزنُ والشوق لن يمنحاك تذكرة عودةٍ إلى بلادك وحتماً لن يمنحاك فرصة التمّتع بما تيسّر لك خلافاً لغيرك. ركز على أن تعيشَ التجربة بكلُ مافيها من أوقات جميلة وعصيبة. جرّب أن تستمع، فالحياةُ تهبنا الفرص لتطلعنا على أسرارها، وماهر من ينصتُ إليها بشغف. لا تتذمر كثيراً، فالتذمرُ يقود لحياةٍ رتيبة، والحياةُ المُثلى تلك المليئة بالنشاطِ والحيوية وتقبل كل ما يحدثُ بصدرٍ رحب. حاول أن تجرب أشياء جديدة أن تتنقل في البلاد للإكتشاف فقط. أطلق لنفسك العنان أن تندهش، الدهشةُ هي اللذةُ الأولى للأشياء وبدونها يفقدُ كل شيءٍ معناه. جرب ما لم تكن لتفعله في بلدك خوفاً من نظرات الناسِ وخوفاً من “العيب والمنقود”. في البلاد الغريبة، لن يطالعك الناسُ إذا مروا بجانبك وأنت مندمجٌ في أغنية ما وتُغني بصوت عال فينظرُ إليك أحدهم بنظرة “مب صاحي!”. ولن يكترث أحدٌ بأنكِ لم تضعي كُحلاً اليوم ويقول لك: “سلامات، فيكِ شي، حد من صوبكم صاير له شي!” ولن يمر أحد بجانبك وأنت تقرأُ كتاباً في مقهى ويتمتمُ: “مسوّي فيها مثقف!”.

لكل إنسان تجربةُ حياة تُميزهُ عن الآخرين، والفرقُ بين الإنسان العادي والمُتميز هو مقدار اتخاذ الأخير للقرارات وإن بدت أحياناً مُتهورة وارتجالية إلا أنها هي التي تصنعُ الفرقَ. الإطلاع على تجارب الآخرين يضاعف تجاربنا الشخصية، بل ويصقلها لأنه يعطينا المهارات اللازمة لتجنب الأزمات وتقبل الإختلافات. عش تجارب الآخرين وتعلم منها، فأفضل المعرفة تلك التي تأتي عن طريق التجربة، والحصيفُ من يفكرُ ويقدّر.

هناك من يحملهُ الوطن على أرضه، وهناك من يحملُ وطنه في قلبه. في رحلتك هذه حاول أن تصنعُ لك وطناً آخر. إن وطن الإنسان الحقيقي هو الذي يكتشفُ فيه ذاته ويسبرُ فيه أعماقه. لكل وطنٍ ذكرياتهُ الخاصة التي يحنُ إليها المرء يوماً فاحرص على جودةِ التجارب ونوّعيّتها. وتذكر دوماً أن التوازن في الحياةِ يمنحها الإستقرار.

Similar Posts

4 Comments

  1. لقد ايقظتي في ذهني ذكريات رحلتنا الجميلة .. كم اتمنى ان نعود لتلك الايام .. لقد كانت تجربة رائعة ..

  2. رائعة … أنتِ …

    كلماتك … سفرٌ يحب الوصول … إلى أعماقنا …

    سأقرؤها كثيرا …
    وِرداً … وتعويذة قُرب …

  3. ألاترين أن الانسان يجد نفسه في تحقيق طموحاته!

    لكنه في نهاية المطاف قديشعر أن أمراً ينقصه إذا لم يجد حوله من يفهمه أو يشاركه طبائعه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *