سألتُ شيخاً

عندما “انتصرت” الثورة في مصر، وحققت مطلبها الأول وهو تنحي”مبارك”، كنتُ في لندن، وكان الاحتفال بهذا الخبرِ على أشدّه. انقسم المستبشرون بهذا “النصر” لقسمين وفي ذات الشارع. القسم الأول ممن اعتبروا الانتصار بوابةً أولى للمطالبة بعودةِ الخلافة الإسلامية، ووقفوا بملابسهم السوداء، حاملين لافتاتٍ كُتبَ عليهَا الشعب يريد حكم الإسلام، مرددين: لا إله إلا الله، الشريعة حكم الله. والقسم الثاني كان مفعماً بالشباب حاملي الطبول وأخذوا يغنون ما سمحت لهُ أصواتهم وتحلقت حولهم الجماهير مصفقةً مصفرة وأحياناً راقصة. وبطبيعة الحال تعلمون أي الحزبين كانَ أكثر عددا!

مشهدين على النقيضين تماماً إلا أنهما يقودانك إلى التفكير في مستقبل “التفكير العربي” وفي العقول العربية عموماً. وحين ننظرُ إلى لبنات هذا الفكر بعمق سنجدُ التالي: 1- قال فلان ابن فلان. 2- فعل فلان بن فلان. 3-قليلٌ من العلم. 4- كثير من العناد والتعصب.

وهذا يقود إلى مناطق كثيرة محظورة، ومشاكل حضارية لا حصر لها. لأنها تنتقل من جيل إلى جيل دون تمحيص أو نَظر. إن ما تفرزهُ هذه المشكلات الفكرية هو أجيال لا تستطيعُ التفكير بالمستقل، ولا تستطيعُ البتّ في موضوع دون الرجوع إلى: {هذا ما وجدنا عليه آبائنا}.

ولنأخذ مشكلةَ تقديس الأشخاص على سبيل المثال. إحدى أكبر المشكلات التي تقطعُ أي حديث عقلاني وأي حوار قد يوصل لنتائج فاعلة. ابحث اليوم في أي موضوع وليكن مثلاً: (مُسلسلاً رمضانياً)، ستجدُ آراءً تمدح، وآراءً تذمُ حدَّ الإسفاف والقذف وستجدُ من بينهَا حتماً، دعوة من شيخ من المشايخ تدعو إلى مقاطعة المسلسل وحذف القناة. وحينَ تفكر في أن تقول:”يا جماعة ولكن…” ستهاجمُ (لكنّك) كأنها عدوٌّ لله ورسوله لأن فلاناً (أفتى). وحينَ تعود لفلانٍ وما أفتى ستجدهُ يؤكدُ في بدايةِ الفتوى أنه شاهدَ (مقاطعاً) وبنى رأيه عليهَا..!

إننا بهذه النمطية من التفكير ندعو إلى عدم إعمال العقل وإراحته لأن أحداً سيفكرُ عنك. ولن تضطر للمناقشة في أي شيء لوجودِ فتوى، مع أن الله تعالى قال في كتابهِ: {اقرأ} وهي أمر مباشرٌ من الله للقراءةِ والنظر وتدوينِ العلمِ {بالقلم} ويقولُ العالمُ العليم: {وقل ربي زدني عِلما} والحديثُ موجهٌ لكل من يقرأ على وجهٍ فردي لا إلى مُحال عليه ليقرأ ويكتب ويزدادَ علماً. بل أكثر من ذلك أنَ التَعلمَ وإعمال الفكر وشغل العقلِ بتقصي الحقائق وتتبع المصادر فرضُ عين.

أذكر صديقةً لي التزمت التزاماً شديداً فقالت لي: “أني من شدة الخوف أن أعصي الله اتصلت لأسأل شيخاً: أن أطفالي يحبون مشاهدة (توم وجيري) فهل مشاهدتهم له حرام، لما فيه من موسيقى؟! فرد علي الشيخ: أني لا أعلمُ ما هو توم وجيري ولكن إن احتوى على الموسيقى فهو حرام ولا تجوز مشاهدته” سأتركُ لكم الحكم على هذه المسألة وخيالكم لو كانت لم تقل للشيخ أنه يحتوي على الموسيقى؟! أو لو كانت قالت أنه من إنتاج أجنبي؟!

إن استخفافنا بعقولنا على مر الأجيال كوّن لدينا هشاشة في وزنِ الأمور بمنظور صحيح في الوقت الذي كان العالم يتطور باستخدامِ عقلهِ ويتحرر من سلطة (سلمّت عقلي). إن ربَّ الكونِ لم ينكر على إبراهيم عليه السلام السؤال والشك بل دعاهُ إلى التثبتِ بالتجربةِ والبرهان حتى يرتاحَ قلبهُ ويدعو إلى دينِ الله على بصيرةٍ. فإن كان تعاملُ الله سبحانهُ وتعالى مع نبيهِ المعصوم وهو يشككُ في ربوبيته بهذا التعامل السمحِ والعملي، كيفِ لأيٍّ كان وبأي سلطةٍ كانت أن يخلق هذا الحاجز بين الناس وعقولهم؟!!

إننا شعوبٌ لكثرِ ما ركنت إلى التسليمِ وإسكات صوت العقل، صرنا نعلق حتى حلول مشاكلنا على (مَهْديٍَ) مهما كانت ملتنا. يتكفلُ هو بإيجاد المشكلة، ووضعِ الحلول، وتجريبها وتطبيقها و(اللي يطلّع يطلع) و(أدينا قاعدين)..!

نحنُ نهبُ ونفزع مع الثائرين ومن علّت أصواتهم بانفعال يخلو من الرشد والتؤدة. لا نتفاعل بشكل منطقي وحضاري وبخطط مدروسة واستراتيجيات واضحة. ولنأخذ مثالاً عليها (التايم لاين التويتري) تمعن فيهِ جيداً ما أخبار الثورة الليبية أو اليمنية؟ وهل ما زلنا نتذكرُ لماذا أحرق البوعزيزي نفسه؟ ماذا حلّ باقتصاد تونس؟

مسكينٌ “أردوغان” لأنه المسئول عن حل الخيبات الإسلامية لأنه العثماني الوحيد الذي تبقى على وجهِ الأرض. ومسكينٌ “مبارك” لأن الشعب حملهُ زلاتِ ما قبل الثورة، وسيتحملُ زلاتِ ما بعد الثورة أيضاً لأن البلاد لن تكون بخير مطلقاً وهي تتخبطُ في وضعٍ سياسي بين الأحزاب المختلفة واقتصادي لأن الشعب (مش لاقي يأكل) ومع ذلك دعيت موسوعةُ جينيس للأرقام القياسية لتسجيل أكبر إفطار رمضاني بينما الأخوة في الصومال وجيبوتي وكينيا يتضورون جوعاً ، ولكن هناك دول أخرى عليها أن تسدَ جوعهم!

يقول مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: ” فكرنا خاضع لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي”

إن من لا يعملُ عقلهُ ويوظفهُ بالشكل الصحيح ويستثمرهُ في الخيرِ والصالح لا يمكننا الوثوق به، لأنه دوماً فريسةٌ للقيل والقال وأيضا فريسة لتقديس الأشخاص وبلا عقل ودراية يضعونهم  في منزلة الإله وهنا مشكلة كبيرة. كلمة “العقل”ومشتقاتها وردت في القرآن الكريم 49 مرة، وكلمة “الفكر” بمشتقاتها 18 مرة. فمن حق أنفسنا علينا، إطلاق العنانِ لأفكارنا وطرح التساؤلات مهما كانت بسيطة، فبساطة الأسئلة غالباً، تقود لاستنتاجات عظيمة. علينا البحثُ والصبرُ على طلب العلمِ والاجتهادُ في تحصيل المعلومة والتوثقُ منها. السؤالُ ليس عيباً العيبُ أن تأخذُ الكلام دونَ أن تناقش وتسلم بهِ حتى لو خلا من المنطق والعقل.

إنني لا أدعو هنا إلى إسقاط أو التقليل من دور أي أحد. ولكني أدعو إلى الإسهام في تشكيل وعيٍّ حقيقي وثقافةٍ نوعيّة تجعلُ لنا وللأجيال من بعدنا عالماً أفضل قادراً على المنافسةِ في كافةِ الميادين دونَ خوفٍ أو وجل لأن من يمتلكُ فكراً ووعياً لا يمكنُ أن يُهزم.

Similar Posts

5 Comments

  1. من الأعمال الناضجة . فلسفته تروق لي جدا . يشبه أغنية عظيمة الشعر واللحن والأداء . بهذا النصح تقتربين من خير مصطفى أمين في زاوية ( ليلة القدر) .نجمة مضيئة يا شيماء.

  2. طرح جميل . اسلوب راق مع استخدام مفردات متناسقة و الأهم من ذلك هو جوهر الموضوع الذي أرقنا كثيرا حيث أصبح الناس يتجاهلون المنطق

  3. احييك اختي شيماء على هذا الطرح الرائع و احب ان اذكر مثل شعبي يقال لدينا ( حط بينك و بين النار مطوع ) يطلبون الفتوى فقط من اجل اهوائهم و هناك من يهوى التزمت و تصعيب الامور هي ليست خاصه بمن يبحثون عن الرخص استصعبوا دينهم فشق عليهم ابسط الاشياء هم لا يعلمون ان الايمان عندما يملا القلب سيسير بك غالبا الى الصواب فحتى نبي الله عرف الاثم لنا بانه ما تخشاه في نفسك

  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    اختي الفاضلة: شيماء

    قرأت مقالك وشدني فيه مسألة شك ابراهيم
    واحببت ان آتي بتفسير شك ابراهيم وما قال فيه الأئمة:

     “…وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكا في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس الخبر كالمعاينة ”

    وحكى ابن جرير عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله .

    واستدلوا بما صح عنه [ ص: 181 ] صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله : نحن أحق بالشك من إبراهيم وبما روي عن ابن عباس أنه قال : ” ما في القرآن عندي آية أرجى منها .

    وأخرجه عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه ، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له .

    قال ابن عطية : وهو عندي مردود ، يعني قول هذه الطائفة ، ثم قال : وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه : أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك .
    فالحديث مبني على نفي الشك عن ابراهيم
    وأما قول ابن عباس : هي أرجى آية ، فمن حيث إن فيها الإدلال على الله وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك . … ”
    فتح القدير ، للشيح محمد الشوكاني رحمه الله
    دمتِ في رعاية الله
     

  5. مقال راقي المعاني متسلسل الأفكار مستوفي الشواهد

    وسر جمال المقال انه يناقش قضية مهمة دون أن نفتقد فيه إحساس شيماء وجمالية معانيها التي تعودناها من سابق مقالاتها

    استشهادك بقصة ابراهيم كان في محلها بكل مافيها
    استشهادك بمقولة فيلسوف الحضارة كانت هي لب الموضوع

    اسجل اعجابي بهذه المقالة.

    بوركتي ياشيماء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *