غَيْمَاتٌ نَاعِسَة

يدخل الصباح بنعومة مع الفجر. يشق طريقهُ الهوينا بين غيمات الصباح الناعسة، ويترك أثره حينما تنفجرُ الشمسُ في السماء، وتحتها تنكشف الحقائق وتفتح العيون في يقظة مبهرة!

تكون قد استيقظت وجهزت ما تيّسر من الطعام لتطعم الأفواه الصغيرة الجائعة. يدخلُ زوجها ويأخذ مقعده المُعتاد ويستندُ على وجعه مُفكراً: كيف يمكنه أن يجلب كل احتياجاتِ المنزل قبل رمضان! يؤثرُ الصمت الذي تتقاسمه معه أم سعود وتخففُ من وطئته بعباراتها المرتوقة بالصبرِ. الهموم التي نتقاسمها مع من نحب تغدو أصغر وأهون:

– هَوّنْهَا وتْهون. المهم وجودك بيننا!

– وما نفع وجودي إن لم يلبي احتياحاتكم.

– خَلّهَا على رَبك، وسَّمْ.

يمد يده إلى الطعام البسيط الذي حضرته. يأخذُ لقمة ويمدها إلى زوجته التي تنظرهُ وهو يأكل في سكينة، يلفتُها حَنانه الوضّاء فتقبل يدهُ وتأكل منها. وحين يهُم بالخروج بحثاً عن الرزق، تضع يدهَا على كتفه وتطمئنه بأن اليوم أفضل بلا شك. يبتسم لها مربتاً على يدهَا:

– الله كريم.

الطرقاتُ تأخذك إلى الذكريات ولكنك من يقرر هل تستمر في النظر إلى الوراء؟! أم تكمل الطريق إلى الأمام؟!. يتسمّرُ في مكانه وهو يتذكر تلك اللحظة التي اختنق فيها تحت الماء، تلك اللحظة التي كادت تأخذه ولا تعيده ويتمنى الآن لو أنها أخذته وما تركته هكذا يعاني من مرارة الخوف من الماء! تنهال عليه الذكريات يحاول ايقافها إلا أن صوتاً يجذبهُ من بعيد إنه صوت رفيقه أبوعبدالله.

– كيف أنت اليوم؟ لدي مشروع مربح سيفتح لنا رزقاً سنتقاسم ربحهُ أنا وأنت.

– من أين لي بالمال يا أبو عبدالله؟!

– دَبِّرْهَا والربح مضمون!

يمر اليوم وهو يقلبُ الفكرَة في رأسه، كيف سيتدبر المبلغ. أبو عبدالله صديق روحي، وصديق مثله لا يَخذُل! سيفعل ما في وسعه ليعيل عائلته. على كل شيءٍ أن يكون جاهزاً قبل رمضان.

يفاتح زوجتهُ الوفية في الفكرة فتستبشرُ أسَاريرها حين ترى لمعان عينيه وحماسه، فتخلع آخر ما تبقى من مجوهراتها “قرطاها الذهبيان” وتمدها إليه وقبل أن يرفض تبادرهُ الحديث:

-يكفيني من الدنيا أني أراك أمامي ويكفيني أن أرى بريق عينيك الذي يخطف أنفاسي كلما رأيته! مرّ زمن يا أبو سعود، وهذه فرصتك فلا تضيّعها حتى لا نضيع!

تلسعُه الكلمات ولكن جِلدَه نضُج من التقاعس. في الصباحِ الباكر ينطلقُ إلى أبو عبدالله ويبدأ الصديقان مشروعهما ويتفقان أن أول دخل سيكون لأبو سعود. مرت أيام طويلة ضنكة. ورمضانُ يقتربُ.

تعجنُ كل يومٍ القليل من الطحين والماء، وتنفثُ فيه حتى يباركهُ الله ويكفيهم جميعاً لرمضان. تمدُ العجين على “التاوة” الحارة وتنحدرُ قطراتٌ من دموعهَا وهي تدير يدهَا حولهُ لتكمل “القِرص”. الدموعُ التي تفرُ إلى طعامنا لتعود إلى أجسادنا وأجسادِ من نحب برَكة، فهي تروي بذور الحب والولاء، فتنبت منهَا أشجار موّدة ورحمةٍ دائمة، ثمارهَا العطفُ والحنان. ترصّ خبزهَا يومياً ولسانهَا يلهجُ بدعاء لا يفتر. حينَ يكفهرُ وجهُ الدنيا يكونُ إيماننا بالدعاءِ أعظم. قالتْ لها “المطوعة مريم”: أن المرأة الصالحة، بقدر ما تحبُ تدعو. وبحجمِ إيمانهَا يكونُ قلبها. وأنتِ يا أم سعود: امرأةٌ صالحة.

اليوم كانت رائحةُ الخبز الرقاق تملأُ الشارع. مدخلُ البيتِ كأنهُ تنورٌ مضيء. والأولادُ حولهَا يتقافزون ويلعبون. وسحائبٌ تَمرُ فوقهَا تخفف حرارةِ الجو فتأتي النسماتُ الباردةُ على استحياءٍ تلطفُ الجو. يشتعلُ قلبِ أم سعود وتستبشرُ خيراً. تلسعها “التاوة” لكثر ما تسرحُ وهي تديرُ يدهَا عليها دون انتباه. تتأملُ ظفائر بناتهَا وهي تحلقُ من تقافزهن أمامهَا. تحسُ أنهَا ترى الأشياء في مشاهد بطيئة تتلذذ بكل جزء منهَا.  مرّ زمنٌ طويلٌ من النَصبْ قبل أن يدخل أبو سعود على زوجتهِ وفي يدهِ قرطان ذهبيان كالذي بذلته له. يدخل وهو يشتمُ رائحة “الرقاق” ويراها وقد عصبّت رأسها تخبزُ في انسجام، وابتسامةٌ تعلو محياهَا العَذب. تفزُ حينَ تراهُ وتصبحُ الحياةُ بالألوانِ حين تلتقي عيناهما. تقتربُ منهُ وقبل أن يحتضنهَا، يُلبسها بنفسهِ القرطينِ ويطبعُ على رأسها قبلةً عميقةً كحبهَا له. ويرددُ على مسامعهَا واعلانُ رؤيةِ الهلالِ يُسمعُ من أصوات الجيرانِ المُتعالية:

-مُباركٌ عليكِ الشهر.. لا خِلِيْتْ يا أم سعود.

 

______________

*التاوة: قطعة معدنية دائرة مسطحة تفرد عليها العجيبة بعد تسخينها. وهي تستخدم خصيصاً لعمل الخبر الرقاق.

*الخبز الرقاق: هي خبز رقيق جداً وهش، يستخدم لعمل الثريد غالباً.

*القرص: الخبز حين يوضع على التاوة ويكون دائري الشكل.

Similar Posts

5 Comments

  1. أحزاناً عديدة

    لا يمكن لحياة بأكملها أن تختصر في حكاية.

    لكن هنا ..

    استعراض الحزن، العذاب , ثم الفرج.

    مشاعر حرمان , لحظات فرح .

    فما أجمل المتناقضات .

    عظيمة هي الدّروس التي تُشبه هذا الدّرس.

    رائعة بحق .

    كالإبريز نقيّة فطرية.

    أرجأتُ الكلمات لوقتٍ لاحق.

    فقط كنت أريد أن أقول بأن حرفك يزداد سموًا.

  2. مشاهد مرهفة ،، بقلم أنيق !!

    ( يكفيني من الدنيا اني أراك أمامي ) ،، تلك هي سر ( القناعة ) والرضا !!

    ( ويكفيني أن أرى بريق عينيك ) ،، والأمل هنا يتهجد في محراب النفس !!

    مدد ولك الرضا ياشيماء !!
    متابع لك / محمد عبدالله ” ميلاد جنووون “

  3. الحُب الطَّاهر يُبارك الله فيه ..
    قُلوبٌ يكسوها الفَرح لِأنها بِالرضى قد رَحبت ..
    و التَّفاؤل لِأنها من الإيمانِ قد إرتوت ..
    أتعلمين ياصديقتي ..
    بقيتُ مُتبسِمةً طوال الوقت و أنا أقرأ ..
    كلِماتُكِ تهنى الرُّوح بها ..
    فهي تبعثُ شيئاً من جمالكِ لِيُرافقها ..
    جميلةٌ أنتِ شيماء  

  4. الهموم التي نتقاسمها مع من نحب تغدو أصغر وأهون..
    حينَ يكفهرُ وجهُ الدنيا يكونُ إيماننا بالدعاءِ أعظم..
    قالتْ لها “المطوعة مريم”: أن المرأة الصالحة، بقدر ما تحبُ تدعو. وبحجمِ إيمانهَا يكونُ قلبها. وأنتِ يا أم سعود: امرأةٌ صالحة.

    رائع.. كعادتك..
    شكرا لك..وإلى المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *