صَمتُنا وعدٌ صادقٌ

بقلم: هيا النعيمي

تويتر: Lady_Haja@

***

‫بصوتها الرقراق يستقبل كل الصباحات.‬‫
هي الوحيدةُ التي ترحب به هامسةً ومن خلفهِ يأتي لحنٌ فيروزي لا يعلمُ أيهما يطغى جمالهُ على الآخر.
تستفتحُ النهارَ بحديثٍ من نور:‬‫ ‫‫
– نلتقي في الطرقات, على الشوارعِ المكتظةِ بالكادحينَ الذين يتنفسونَ نسيم البحرِ وملوحتُه تداعبُ‬‫ أنوفهم‬‫ برقة, وبين الحكايات العتيقةِ التي تتناقلها المقاهي بين كل‬‫ مقهىً وآخر.
نختبىء في ضحكات العجائز‬‫ العذبة،‬‫ ونتوارى مع فلسفاتِ الخجل.
وبينَ ذلك كله يتسللُ الحبُّ باحتلالٍ سِلميٍ لقلوبنا, يستوطننا ونحنُ نخشى البوحَ به, نمارسُهُ كَذنبٍ, وقد يكون كذلك، لكن ألا تتفقون معي أنه أجملُ الذنوبِ على الإطلاق؟! ‫
‫يختفي صوتُها لتغني فيروز: “‬‫فَزعَانِة‬‫ يا قَلبي, أكْبُرْ بِهَالغِربِة” يَجرفُهُ اللحنُ الفيروزي نحوَ غُربتِهِ‬‫ الخاصة‬‫, يستفزُّ الحنينَ فيه إليها, فقلبُها وطنٌ منذ غادرَهُ عاشَ في غُربةٍ وحربٍ ضَروسٍ, يُمزِّقُه الشوقُ ويستعصي عليه النسيان.
هي غصنُ سلامٍ طارت به الحمامةُ لسفينةٍ أخرى, في نورِ عينيها طُمأنِينَةٌ و قوةٌ اجتمعت في ضَعفِها الأنثوي. تستمرُ فيروزُ مُوغلةً في الأسئلة القاتلة: “شُو بِنَا؟ شو بِنَا؟ يا حبيبي شُو بِنَا؟” ويأتي صوتها الملائكي بعد أن يخفت صوت فيروز مجيباً عنه: ‫‫
– شو بنا؟ لا تُلحي علينا يا صوتَ الأرضِ, فالإجابةُ قدرٌ مَحتومٌ كُتبَ علينا‬‫ مُنذُ‬ كُنَّا في المَهدِ.
إنًّهُ الفِراق، أكبرُ ذنوبُ العاشقين, وليس للفِراق اعتذارٌ‫ يليقُ به.

يَتمَالكُ رغبةً في أن يَضغطَ مِفتاحَ الإغلاقِ الصغير, عَلَّه يُخرسُ الماضي ويُرسله لـ غَياهِبِ زَمانِه.
نحنُ نُمارسُ التذكُّرَ حتى لا نَفقدَ مَن نُحب, ففي النسيانِ فقدٌ أكبرٌ لما كان, وألمٌ موجعٌ سيصبحُ بعد ذلك بلا سَبب, فالذكرى سُلوانٌ وإن كانت مُجهدة‬‫ً متعِبَة‬‫ً تستنزفُ آخرَ رمقٍ للعاشقين في الحب.

هذه العادةُ الصباحيةُ هي الوحيدةُ التي تُبقيه مُتعلقاً بوطنه, قَلبُهَا وَطنُه الذي استعصى عَليهِ، فَفاءَت إلى حُضنِ غَيره.

مَا زالَ مُتعلقاً بصوتِها الصَّباحي. يَعجزُ عن التَّخَلِّي عنه.

تَمُرُّ الدقائقُ وهو في سيارتِه لا يقوى على الخروجِ منها حتى تَنطقَ شهرزَادُه جُملَتَها الصباحيةَ الشهيرةَ، خَاتمةً حديثها: ‫‫ –
صَباحُكم جميلٌ كأنتم, و اليوم, أحبُّوا بَشغفٍ أكبرَ، ولا تَجزعوا من ذُنوبِ الحبِّ, فَحرمَانُكم من الحبِّ ذنبٌ في حَدِّ ذاته, لِقائي بكم يَتجدَّدُ غداً ككلِّ يوم, فكونوا على الوعدِ دوماً.

‫‫
ظَلَّت عيناهُ مُسَمَّرتانِ على جهاز المذياع, يَستمِعُ لَصوتِها الذي يَختَفِي تَدريجِياً, وكَأنَّه يُعيدُ الفِراق‬‫َ مرة‬‫ً أخرى, حِينَ تَلاشى صوتُها وهي تَبتَعِدُ عنه, حينَ همسَ لها في ذلكَ اليوم وعدَهُ أن يَرقُبَها كلَّ يومٍ، و وَعدُهَا الصامتُ أن تَستَقبِلَهُ كُلَّ صَباح.

يَهُمُّ بالنزولِ من سيارته بعدَ أن يَتأكدَ من أن جُروحَ قلبِهِ لا تَظهرُ.

هِندَامُنَا سِترٌ لأفئدَتِنا المُتَفَطِّرة، و الندوبِ التي نودُ إخفاءَها عن الآخرين.

يَرسمُ ابتسامةً يستشفُّها من صَوتِها، عَلَّ شمسَ الصباحِ تَعكِسُها على ثَغرِها؛ فَتعلَمَ أنَّهُ استمعَ إليها اليومَ أيضاً.

يُطفىءُ المُحرِّكَ، وفيروزُ تُنشِدُ للأفق: “وِبَعْدَا الشمسِ بْتِبْكِي .. عَالْبَابِ وَمَا بتِحْكِي” يُعلقُ بَدَلاً عَنها: وَبعضُ صَمتِنَا وَعدٌ صَادِقٌ أيضاً..! ‬

Similar Posts

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *