قَالتْ بُهَيسَه

“البلاك بري” تقنية رائعة لمعرفة الناس عقليات وأنماط المحيطين بك، ولأننا في زمن (اللي ما يشتري، يتفرّج) أكتب هذا المقال اليوم. أول ما سأفعله الآن، أني سأعترف، أنا كائن يتبّع الموضة في أحيانٍ كثيرة، ويهمني أن أبدو أنيقة وبسيطة في كل شيء، تهمني الماركات ولكنّي لا أستميت مطلقاً في أن تكون كل قطعة أرتديها لمصمم مشهور!

عموماً الحقيقة أننا كثيراً ما نسمع التذمر الشديد من الرواتب المتدنية والأجور الضعيفة، وتعب الطبقة الكادحة التي لا يساوي جهدها راتبهَا، الراتب الذي لا يبقى منه شيء لنهاية الشهر! والمتأمل في الشارع الخليجي خصوصاً المتواجد الآن في المصايف المختلفة قد يلتبسُ عليهِ الأمر. فإذا كان ربعُ الشعب (خسران في البورصة) وربعه الثاني لا يكفيه مُرتبه حتى نهاية الشهر، والربع الثالث عليه أقساط وديون – ناهيك عن اللذين يجمعون كل ذلك!- يتّبقى لنا الربع الموسر هو الذي يستطيع تحمل نفقات السفر بكل ما فيها إلى مدينة أوروبية (لندن) مثلا!! فإذا وجدنا أن أغلب المسافرين “يباهون” أنهم سافروا على الدرجة الأولى ورجال الأعمال، ونظرنا إلى صورهم عبر أحدث وسائل التقنية وهم في كامل الأناقة “المفرطة”. نكونُ أمام خيارين: إما أننا شعوب (فاهمة غلط) أو أننا شعوب (لا تشكر ولا تحمد)..! 

أغلبُ سُياحنا الجميلين، لا يسافرون بغرض السياحة، بل بغرض الشراء والشراء فقط إلا من رحم ربي وسخّر له القدرة على الجمع بين الاثنين..! وأنا هنا لا أعترضُ مطلقاً على موضوع التسوّق ولكني أنكرُ على المسرفينَ فيه، فنظرية الشراء (قبل) و(أثناء) و(بعد) السفر لا أستطيعُ استيعابها مُطلقاً. المشتريات ماهي إلا مواد حياة، نتعايش معها وليست كل الحياة .

في احدى رحلات العمل إلى أمريكا، فاجئتني احدى الزميلات بسؤال مباغت: هل صحيح أنكم في الخليج لا تلبسون إلا الماركات العالمية؟ وأن لا مُدخرات لديكم لأن أموالكم تذهب للشراء؟! لا أُنكر استغرابها، وذاكَ الصَّمْتُ الذي حلّ عليها، ذاكَ الصّمت الذي يعبّر بصمته أنْ لا تعليق. 

اهتماماتُ الناس البسطاء السطحية مشكلتُهَا الوحيدةُ أنها تعكسُ للآخرين صورةً غير حضارية، وصورةً مغلوطةً عن واقع المثقفين في ذات الوسط. فمن يرى أناساً متأنقين جداً في المتاجر الكبيرة والمقاهي الفاخرة ولا يجد لهم أثراً في المتاحف الكثيرة على تنوعهَا، أو في الحفلات الموسيقية والأماسّي الفنية أو أي تظاهرةٍ ثقافية بعيدةٍ عن التسّوق، فمن الطبيعي جداً أن تكونَ الصورة غير سوّية. إننا نسوّق لذواتنا عبر تفاعلنا مع العالم الخارجي في الشكل والمضمون. كُلما بالغنا في الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر (الخلقي والعقلي) كُلما سهّلنا على الآخرين فرصة الانتقاص منا. 

الأكياس “الصفراء” و”الخضراء” التي تشغلُ (المُتَلَندنين) وينتظرهَا المَحرومون من (التَلَنْدن) باتت هاجساً. فلا يمكن أن يمر يوم دون التسوّق في احدى هذين المتجرين، ولا يُهّم ما تشتري من هناك، المهمُ أن تحملَ كيساً أصفراً أو أخضراً في يدك  للفت الانتباه.. حتى يعلمَ الناس أنك من الطبقة (المُنعمِ عليها)..! 

ينسى البعضُ أن الأناقة تكملُ في البساطة. وأنك حتى تكونَ أنيقاً وحسنَ المظهر و(ولد نعمة) لا تحتاجُ أن ترتدي كل ما لديكَ وتكونَ في ذاتك (مَتجراً متنقلاً). ولا أجمل من اكتمال حُسنِ الخُلقِ والخَلقِ والعقلِ والمَظهر.

الشراءُ مُتعةٌ متى ما كُنا قادرين على الاستئناس بها دونَ التوجسِ خيفة من سؤال: (كم باقي على نهاية الشهر؟). علينا أن نرتدي أفضلَ ما لدينَا ونُحسنَ في الشراء لا للتباهي والسُمعةِ، بل لكي نرضي أنفسنا في كامل الجوانب التي تَهمُ الآخرين قبل هيئتنا. وعلينَا أيضاً في كل مرة نوّد “الاسراف” في اظهارِ ما لدينَا وما اقتنينا مؤخراً أن نتذكرَ المُقربين منا الذين لا يستطيعون دفعَ ما نستطيعُ دفعه، أو الحصولَ على ما نستطيعُ نحنُ الحصول عليه! وعلينَا قبل ذلك كله التفريقُ بينَ ما هو ضروري، وما هو لازم، وما هو كمَالي، وما هو كمَالي لا داعي له!

التَنعمُ ليسَ اسرافاً، التَنعمُ فضلٌ يجبُ التعقل فيه وإلا نضَب. وما ينضبُ لا يمكنُ أن تُردّ فيهِ الحياةُ إلا بشقاء!

 

وأختمُ بما قالت صديقتي بُهَيْسَة رضيّ الله عنهَا:

(اللّي عِشتِ بدونُو، ما حَتْمُوتِي مِن غَيرُو)!

 

Similar Posts

3 Comments

  1. صوتُ نفير عظيم وقلّماَ يتّصف بالعطاء، وكاتبة تهزّ الحياة، بآمالها وطموحاتها التي لا تنتهي بل تتضاعف يومياً
    بالتأكيد زاخرة ومتناغمة كحبّات عقد جميل. وأجزاءه مُتلاحمة.

  2. كلام سليم
    بارك الله في بهيسه 🙂
    المظاهر داء سقيم انتشر في الكثير من الناس
    عزز له الاعلام المادي، وللأسف الكثير من الناس ينجر
    لهذا الأمر دون أن يستوعب هل يحتاج ما يبتاعه أم لا
    شكرا لك

  3. كلام جميل و متستف تستيفة منطقية واقعية أعتقد وجوب “ترجمته” لسائر الشعوب العربية اللي “بتلبس و بس”!!
    نرجع و نقول بهيسة رضي الله عنها وأرضاها 🙂

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *