سَيدةُ الفصُول
الشَمسُ تشرِقُ بذاتِ الرتابةِ التي اعتادت عليها مُذ مُرجتْ من ذراتِ النار والدخان..
اليومَ تشرقُ في هذه الناحية، في هذه البقعة المستنيرةِ من البياضِ أصلاً، كلُّ شيءٍ حولي يملؤُه البياضْ .!
أنظر إلى تلكَ المرآةِ التي تعكسُ خلفي ملاءات السرير التي استحالت ثفافيداً.. كوبُ الماء الذي أرى من خلاله طلاءَ الجدار المُبيضّ عنوةً.. زجاجاتُ الزينة عَلى الطرفِ الآخَر.. تنبعثُ منها أوركيداتٌ لها شكل جميل. ربما.. هي الوحيدةُ التي تلَونَت ببعضِ الحمرةِ التي قد تُذكرني بأيامِ الصِبا، وفلتاتِ العُمرِ الفتيّة.. من الذي قال : ألا ليت الشباب يعودُ يوماً .. لأرد عليه فأقول : ألا ليتَ العمرَ كلهُ شباباً ..!!
شَعري.. أو بقايا شَعري.. هو الآخر يرغمني على تصديق أني أقف الآن خلف عمري.. وأنظرُ أمامي لأجدَ كوماتٍ من الخيباتِ تلتصقُ بكاهلي الذي بدأ يتقوسُ. قوساً فقدت رامِيها..!!
أذكر اليومَ وأنا أمسكُ بهذا الرأس الذي تهاوَى شَعره: تلك الجميلةَ التي كانتْ تداعبهُ بينَ أنملِها وتفاخرُ به كَما لو أنه شَعرهَا الذي اعتادت تسريحهُ كل صباحْ ..! ليتَها هنا الآن؛ لنضحكَ سوياً ونبكي معاً على كل ما اقترفناهُ من أثرِ الوداع! إيهْ.. ذياك الوداع الذي استحال جمرةً تتأجج في الفؤادْ. يومها كنتُ أكتبُ فيكِ القصائدَ العَاريةْ.. وأبكيكِ فَتذْرفُ أدمعي بلوراً تجمعينهُ بين كفيكِ لتَنْظمِيها عقداً يتوسط قدّكِ المياسَ .. فأنظرهُ فَيبتسمُ الطرفُ مني .. وأغيبُ في مدنِ ضحكاتكْ..!!
أذكرُ يومَ كتبتُ لكِ تلكَ الأحرفَ فنعتني شاعراً ( يتَنَزر) وما كنتُ إلا ( أتميّسُ ) على ضوء اسمكِ الذي يشعُ له خافقي قمراً فترسم على ثغركِ بسمات الخلود ..
ثغري .. وابتساماتي ..!!
ثغري بدأ يميلُ للاختباء لم يعدْ ذاك الثغرَ الفتي الذي كنت أعتبرهُ يقاسُ على معَايير الجمَال..ربما لخبرتهِ أو لما مر به من اختباراتٍ جريئة أحياناً.. أولُ ابتسامةٍ عبرتْ هَذا الفمَ كانت قبلةً سخيةٍ كاختبار لبعضِ الرجولة، كنتُ يومَها قَد عبرتُ قارةً بأكملها كي أحصدَ بعضَ الشهاداتِ التي كومتهُا فيما بعدُ على جدارِ غرفةِ أمي، كي تتبسمَ كلما رأتها وتمدُ يدها داعية:” عسى ربي يكتب لك الخير وين ما رحت” أين أنتِ الآن يا أمي لترفعي يديكِ بدعاءٍ كذاك. كنتُ أحاولُ جاهداً إبعادَ الوجلِ الذي ينتابني حين تضيقُ أزقة الدنيا علي.. وعبثاً أحاول أن أنكرَ ملامحَ وجهي التي تفضحني أمامكِ كل مرة. أتدرين أمي .. أنكِ اليوم وأنتِ في قبركِ أقربُ إليّ ..؟؟!!!
ابتسامةٌ أخرى تبعثها هذه المرآة ..!!
هل حقاً أن هذا الذي يبتسمُ أمامي هو أنا ؟؟!!! يراودني إحساسٌ بأني غدوتُ أجمل أو ربما يخيلُ إلي أني كذلك تراودني أيضاً فكرةُ أن أكون (شبحاً!) ومعَ كُل البياض الذي يحيط بي لا أرى سوى سوادٍ واحد يخترقه ؛ هو سواد عيني ..!!!
الغريبُ أن البريق الذي لمَحتهُ حسنائي يوماً ما زال يسكنهما..!! جيد نقطةٌ لصالحي.. أخيراً..
رباه ..!!
هل أستطيعُ عدّ هذه الخطوط التي تتماوجُ في باحاتِ وجهي الضئيل ؟!!
سأحاول :
واحد .. بوجعْ اثنان .. بألم ثلاثة .. بفقد أربعة .. بجزع خمسة .. بوله ستة .. بلذة سبعة .. بحرمان .. بابتسامةٍ أخرى، رقمي المفضلْ (7) يرمقني بدمامة .. تحديته يوماً أن أُبقي سني (سبع سنوات) وأن لا أكبر كبرتُ وجاوزتُه وبقي في محله يصغرني وأكبره..!! ثمانية .. بحب تسعة .. باشتياق عشرة ..
بمــ م م ـو ….
وغاب الصوتُ كأنهُ تحدرَ في غورٍ ماله من قاعْ .. تتحشرجُ الدموعْ ويشحبُ الصوت .. وتنقلبُ الصورة رأساً على عقب…
دوارٌ ويتشبثُ عُمري بـ إكسير الحياة المُعلَب.. وهو يقطر الهوينا في هذا الأنبوب المتصل بيدي.. ليتني كنتُ قادراً على التخلي عنه أو الجري بعيداً لأصلَ لجزر عينيكِ فأتعلقَ بأستار رموشكِ وأسدل عليّ أجفانكِ فلا تصلني يدُ ذاك المُريدْ – على الأقل الآن – ..!!!
بعيداً عن تلك المرآةِ التي حملت إليّ تلك الأوجاع السخيّة. لا أريد أن أنظر لنفسي لأكتشفَ التغييرات التي عبرتني دونَ أن أتخيلَ أنها ستذرني بهذه القوةِ التي لا تجيدُ إلا التمددَ على الفراشْ والعبثَ مع الهواء ..!!
هل من حقي أن أشتهي شيئاً الآن ..!!
سئمت هذا البياض الذي يلفني فله وجهان :
الوجهُ الأول : الكفنُ المعطرُ الذي سألفُ فيهْ والثاني : تلكَ النزعةُ الـ ” ميتافيزيقية ” التي تخبرنا أن ذاك العالم يتحدجُ بالبياضْ، من يدري لعلها فلسفة نورانية الملائكة.. لا يهم أبداً فتلكما صورتان متلازمتان في هذا العقل.
هذه النافذةُ المطلة على اللاشيء سوى البياض الذي ترامى أمامي بقدر ما تمدُ عينايَ بصرهما.. حتى “الخارج” يتواطئُ مع سمَة هذا الركودْ.. الثلجُ يبعثُ زعيقاً يزمجرُ في الخلاء. والخلاء ها هنا في هذا الجسد وهذا القلب..!! خاوٍ قلبي منذْ رحلتِ أنت يا قرة العينِ وتركتني أنازعُ في هذه الدنيا شهوةَ البقاء. وأعينهم تراودني أن أجني من الشَقراواتِ ربيعَ أعمارهن. وأنا واللهِ ما استطعتُ أن أستبدلَ حمرةَ خديكِ .. وسمار بشرتكِ الذي أغراني مذ رأيتك تلعبينَ تحت المطرَ بقدمينِ حافيتينِ، وشعرٍ يجاوزُ طولهُ طولَ الليلِ. أصبحَ متقطعاً الآن، كلُ قطعةٍ كعنقودِ عنبٍ مضطرب.!
قفارٌ أجوبها وحيداً، تتبعني آهاتي وتنهداتي التي خلقتْ من رَحمِ الموْت. كلُ شيء يتبعني هُنا، بنظراته التي تزفني للمقابر، وعواءٍ يخترقني فأعرف أني غدوتُ روحاً تودُّ التحليق، إلا أن أحد الجناحينِ قُصّ .. ومضجعٌ في راحتي قُضّ ..!
حمامةٌ .. وأخرى .. خلف النافذةِ الصامتةِ تتبادلانِ قبلاتٍ ينفثُ فيها البردُ دخاناً أخاذاً على هذا الزجاجْ. أذكرُ جيداً حينما كنا نطوي الأرضَ أسفاراً، حينما كنا نقبل الحماماتِ الساهيات في الساحات حين يلعبن ، وحين كنّ يقرنَ على أكتافنا في حبور.. أتذكرينَ باحاتِ لندنَ العتيقةْ.. وحبوب القمح التي أطعمناها إياها ذات شبابْ، ليتني. أقتربُ منكِ لأحقق لك رغبتكِ الناضِحةِ بالحياةِ حين تَراهنا على أن تقفَ تلك الحمامةُ ذات الريشِ الأبيضِ المبرقشِ ككنزتكِ التي ترتدين على يديكِ، وإن أتت، كان قدري أن أقبلكِ تحت هذه السماء هنا أمام الحماماتِ.. والناسْ، وحين توسطتْ تلك الحمامة راحتيكِ تشربت وجنتيايّ لون الزعفرانِ خجلاً فأعفيتني من تلك المهمةِ المستحيلةِ بصدرٍ يملؤهُ الحبُ والتفهُمْ. ليتهُم هنا يفهمون ما أريدُ دون أن أتكلمَ كما كنتِ تفعلينْ، كنتُ أكتفي بالنظرِ لعينيكَ لتعرفي ما أريدْ. وكنتُ إن حجبتُ ناظريَ عنكِ وضعتِ كفكِ على قلبي، وعرفتي آنذاكَ ما احتبسَ في نفسِي، أينَ أنتِ الآن لتعرفي أي هذيانٍ يهذيه هذا الخافقُ بلاكِ؟!!
إنهم هنا؛ يحاولون أن يقتطعوا من وقتهِم لأجلي، وأنا أعلم جيداً أنهم يتدارسونَ موتي. تعالي يا سيدةَ الفصُول لتخبريهم أنكِ مُذ رحلتِ، وأنا قد نفيتُ إلى بلاطٍ تستعرُ أروقتهُ حنيناً، ونسيمهُ حفناتٍ من فردوسٍ ضامٍ، وأني بلاكِ تساورني رغباتٌ كثيرةٌ بالهجوعِ إليكِ، حيثُ أنتِ تقيمينْ صرحكَ العاجيَ وتنظرينَ إليّ فآتيكِ طوعاً. ويكفينا بعداً..!!
وبعدَ إغمائتي الأخيرة .. لا أتمنى سوى أن ألتقيكِ هناك حيثُ لا أحد ..!!
كتبت شهادة الوفاة في ذات الساعة ..
على ذات الكرسي أمام الحمامتين..
واعتلتها ابتسامةٌ باهته..
22-1-2006
حاولت ترتيب ما يُسربلني من أفكار.. لكنّي وصلتُ لشفا يأس فقرّرت أن أرجّح فكرة على فكرة.. أو بصورة أدق ألماً على آخر..!! مقايضة لن تنتهي بخير إلّا أنّي خضتُ فكرة تقبّل هذه مُناشدة عميقة، تضرّعٍ خفي، أملٍ ما!. غير موجود..! الأفكار كانت قوّة –شئتُ أم أبيت- متّخذَة شكلاً ما! قوّة تعي أن القيمة فيما نتج عن قرار..! كباسقات نَفَضَتْ مدامعاً نضَجَت وحان قِطافها!
أقف أمامها، وتقف أمامي.. أستصعبها وتستيسرني..! مكّنتها من السِّنَان ولم أتمكن من فكَ رموزها..الحروف إيقاعاً وتناسقاً ووفرة من الإبداع وإن تناثرتْ ولم تلتحمْ، وفرة تجعل العين تنطق ((ناعمة موت)) .
هناك مشاعر/ عواصف لا يمكن أن نصفها، نكتبها، أو نصدح بها بأيّ لغة حلّتْ على وجه الطبيعة سواءً تخلّف وراءها لبنة فوق أخرى أو يَبَاباً يتبعه أسى! مشاعر لو اجتمع الشّعراء والمبدعون والكتّاب والرسّامون والمحلّلون والمترنّمون كيْمَا يصفونها بجزء اللون ما قدروا!
وبقيت العين مشدوهة لعجز صاحبها الذي لم يوقفه سؤال ولا غاية!
لم أبكِ على فرصةٍ كبكائي على عدم تقبيلك لها تحت السماء، بشهادة الحمامات، وأمام أعين المارة، سيظل الحب الشرقي سخياً في حرمانه، سخياً في موته، ويضج بكل هذا الألق في كتابته، إلا أن أبطاله هم أبطال الغياب، لا ينالون شهواتهم أبداً.
آخ من الحب، والموت، كلاهما من أهم المُحرضات الإنسانية على الكتابة، وأنتِ لم تكتبي فقط لقد حكيتِ الحكاية من بدايتها حتى نهايتها، بكل هذا الألم الرابض.
مساء الخير سيدتي الكريمة : أشعر فعلاً أنه ليس من اللائق أن نبدي لكي إعجابنا بالجانب الأدبي من النص ونتجاهل الأهم وهو الجانب الشخصي و الإنساني ، ماكتبتي كان في غاية الإبداع ولكن ماذا عن ( أعلم جيداً أنهم يتدارسونَ موتي ) ( كتبت شهادة الوفاة في ذات الساعة ) فهل هي كلمات اقتضتها ضرورة أدبية معينة أم ماذا ؟ نرجوا أن تطمئنونا عن صحتكم في أقرب فرصة ،، أبو عمار