لَيلٌ فَيْروزيّ
يطبقُ الليل علينَا لتهدأ خلايانا وتسكنْ. تلك هي الحالة الطبيعية لليلِ ودوره في الحياة. إلا أن في غَسق الليل حياةً تنشطْ! يُزارُ فيهِ من نُسّيَ في النهارَ خِلهُ، وتقتاتُ آهاتِ العتبِ منَ الطرقاتِ النائمة.
تُتحفنَا فَيروزُ حينَ تُغني مع أول الليلِ: (جاءتْ مُعذبتي في غيهبِ الغسق)! هي تَحضّنا من حيثُ لا نعلم على مواصلةِ العَمل، ولكنهُ عملٌ من نوعٍ آخر، إنهُ جهدُ القلبِ وجهَادُه! حتى اذا ما انطرحنا محاولينَ نَدحَ ما استفاقَ من الأسَى، واصلتْ شدوها: (الليل مش للنوم، أصل الليل للسهر) بل وَتزيدُ الليلَ فتنةً حينَ تُغني: (اسهَر بعد اسهَر) مؤكدةً (مين بينام غير الأولاد!). كأنها تنهانا عن النوم، وتحرضنا بصوتها العذب لتأملِ النجوم، وعدّها كما العشاق، ونحنُ نستمعُ إلى: (حبيبي بدو القمر)!
ونحنُ نسهرُ متَبعينَ النصيحة. مبللينَ الليل بذكرياتنا التي تقضُ سكوننا الداخلي. وتجلجل شهقات البكاءِ مخادّنا القطنية حتى يتوارى بعضُ وَجعنا فيها ماءً يزيدُ القطنَ طراوةً فيلينُ أكثرَ ليحنو علينا كلمّا دَفنّا رُؤوسَنا لنَكتمَ هذه الشهقاتِ الممتدة. أو ليتشكلَ كما تَشاءُ أحضانُنا كما زادَ ضمُّ المشتاق صبابةً لمُحبه. ويمضي الليلُ مغبوناً.. كالأسلِ حينَ يركنُ على جدارٍ لا على قَوسْ. إلى أن يُقبلَ الفجرُ بِخلسةٍ حمراءَ مُصفرة، يَحملُ أحلامَ العصافير في بناءِ عشٍ هادىء. فيتذكرُ العاشقُ أنهُ مازالَ سَاهراً لم يراودهُ الوَسن. بلْ راودتهُ أحلامُ السَكْن!
أمَا أنا يا شَطري، وانشِطاري.. فكلُ يومٍ أسهرهُ في هواكَ جَبينٌ يَنضحُ نوراً.. وارتواء. وكلُ جُهدٍ أتحملهُ بكَ جهادْ. سأنتعلُ حذاءً من أملٍ علّهُ يأخذني إلى مدنٍ لا تعرفُ الغيابَ والشجنْ. مدينةٌ تؤمنِ بالحبِ والشوقْ، وتجعلُ من كلِ عاشقٍ ملكاً. سأبكيكَ كلما اشتقتُ إليك. فما الحبُ لو لم يخضّبْ بالشوقِ والدموع؟ وما قلبكَ لو لم أسكنهُ وقلبي لو لم يَحنَ إليك وإلى جميلِ حَنانكَ؟
صوتٌ من بعيدٍ يقترب.. صوتٌ عَطوفٌ أسمعه ينتشلني مِن الحلمْ.. إني أسمعُ صوتكَ مُتحداً مع فيروز يُغَني:
(يلا تنامْ .. يلا تنام)
وأغفو.. على صوتكَ.. فألتقيكَ على شرفاتِ حلمٍ أبيض.
test